ليس من الأنانية في شيء ولا من العنصرية في شيء، أن يقرر المرء خلفا عن سلف أن ديننا العظيم دين الإسلام هو ترياق الحياة وشريانها النابض، ذلك الترياق الذي لا نحتاجه اليوم نحن كمسلمين فقط، بل كل البشرية باتت في أمس الحاجة إلى تعاليمه السمحة، وحضارته الفاضلة، ويحضرني عند هذا الطرح ما قاله “برنارد شو”: “لو كان محمد بن عبد الله يحيا بيننا هذا العصر لحل لنا مشاكل الساعة كلها وهو يحتسي فنجان القهوة”، ولسنا في حاجة إلى شهادة الشهود على أمانة محمد صلى الله عليه وسلم ومكانته التاريخية وقدرته العظيمة، إنما هي ذكرى لمن ألقى السمع وهو شهيد.
فديننا العظيم دين القومة محفوظ أمره من لدن عزيز حكيم، فما بالنا اليوم يا ترى ومع يقين الحفظ هذا قد صرنا في ذيل الركب، نبغي التمكين عند أبواب الذين قارعوا أصلنا بالسيف والرمح والمنجنيق، ونهفوا إلى تحقيق الحياة الطيبة بأسباب مادية متسفلة في النقيصة، ونتبرأ من تاريخنا المجيد نبزا باسم الظلامية والماضوية والوراء، بل ونلحق به -وهو المحاصر الذي حيل بينه وبين الناس- كل عار وشنار، وها هي المدنية الحديثة وبعدما وقفت على حقيقة حفظه وسراب تحقيق الغلبة عليه، قد تحركت بمكر ودهائية كي تعبث بالحلقة المحشورة بين الدين والتدين، وبين النص وفهمه وتطبيقه، وبين مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهوى النفوس الموبوءة والطبائع المخبولة، حتى عمت الفتنة وطفحت البيئة بالأوبئة العقدية الفتاكة، وحاد جمهرة من الخلق عن سبيل الله القويم، ووقف الحليم بين تعدد السبل حيران لا يدري يمينه من شماله..
وحق للحليم أن يحار سيما والكل يدعي لمركوبه شارة النجاة، والكل امتطى صهوة التحزب والتفرق، فلا زال أهل التفريط يدندنون من على منابرهم -وما أكثرها في يومنا هذاـ بكون الدين هو شريعة وحقيقة، وأن الحقيقة أفضل من الشريعة على اعتبار أنها صنعة الخواص فيما يقابلها من تعبد العوام، وأنه لابد لمريد العبادة من شيخ، فمن لا شيخ له فالشيطان شيخه، وأن قلب العابد بيد شيخه يصرفه حيث يشاء، وأن غضب الشيخ من غضب الله، وأن المريد من حيث التسليم لشيخه لا خيرة له فهو كالجثة بين يدي الغاسل، وأن الولي أفضل من النبي بل هو أسرع إجابة من الرب (تعالى الله عما يسطره الأفاكون علوا كبيرا)، وأن صلاة الفاتح هدية نبوية منامية تعدل من مصدر تشريعنا الأول ست ختمات، وأن بديل الكلمتين الخفيفتين على اللسان الثقيلتين في الميزان الحبيبتين إلى الرحمان هما مكرر ضمير الغائب “هو هو”، وأن أي ذكر غير مأذون فيه من طرف الأوصياء الجدد هو هلكة لصاحبه يوم القيامة..
وقد يطول بنا التفصيل وحبل البهتان ضارب في الوراء والأمام، فتعففا نجمل القول على أن أهل التفريط هم طائفة مارست وتمارس نوعا من التألي على الله، تأل صارت معه سلعة الله الغالية مطية سهلة المنال لكل خرافي مبتدع، بنى أركان تدينه على المنامات والتخيلات اللذين هما نوعان من أنواع الأز الشيطاني.
وفي مقابل هذه الفئام المفرطة نجد أهل الإفراط قد وجهوا سبابة الاتهام فاستحلوا الأعراض والدماء، وحكموا على بلاد القيام والصيام بالجاهلية، وأقاموا الحدود خارج دائرة الاستخلاف والبيعة الشرعية، واصطادوا في كل ماء عكر فكفروا أهل القبلة بالكبيرة، وأطلقوا العنان لألسنتهم الحداد سلقا ونبزا واتهاما لأهل العلم الربانين، فلا سلام يُلقُون، ولا ردا به يجيبون ولا صدقة ابتسامة وجه بها يجودون، تعرف في وجوههم نظرة الحقد والكراهية، شعارهم هجر المساجد، وتفسيق الساجد، وإخراج الناس من دائرة الدين الفوج تلو الفوج، تواقون لتلبية نداء جهنم هل من مزيد.
وفي مقابل هذا الإفراط والتفريط نجد طائفة من الناس مذبذبة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، إنما تحركها المصالح تارة صوب التفريط، وتسوقها الحسابات الحزبية الضيقة صوب الإفراط تارات أخرى.
فيا أيها الحليم عجبا أن تكون في حيرة وقد ترَكَنا الحبيب صلى الله عليه وسلم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عن جادتها إلا هالك، ذلك الحبيب الذي قال وقوله الصدق: “إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء”، بل وكان يدعو ويقول: “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”، وكان يقول: “إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة”، وقال لصاحبه يوما: “أقتلته بعدما قالها، وظل يرددها حتى تمنى صاحبه لو سكت”، بل وقال في حقه مرسله سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
وقد حدثنا وحديثه بين ظهرانينا لا يزال غضا طريا عن زمن الفتن وسنوات الجمر والأيام الخداعات، وعصر تداعي الأكلة على خيرية أمة التوحيد، لكنه لم يتركنا عرضة في باب التوق إلى شاطئ النجاة دون أن يحدد لنا مطية التمكين وصوب الخلاص، كتابُ ربنا وسنةُ نبينا ذلك الميراث الذي أجمله عليه الصلاة والسلام في منهج “ما أنا عليه وأصحابي”.
فأي دين بعد هذا البيان يرضينا أن نقدمه إلى الناس بديلا عن هذا الموروث النفيس الذي ساد في يوم سالف، وساد أهله عن عزة عزيزة وحق حقيق؟
أهو الدين الذي قال في حقه سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}، أم هذه الهرطقات التي طفت على السطح باسم الإصلاح والهيكلة ومحاربة التطرف المقيت، ومراعاة المصالح الإقليمية، وإظهار المودة للآخر الذي ما فتئ يدك علينا الأرض دكا، ويزلزل أديمها من تحت أقدامنا، فلم يرحم فينا صغيرا، ولم يوقر منا كبيرا، إنما هي أسراب طائرات عالية متعالية لا تفرق بين سفح أو قمة، ولا بين صالح أو طالح، ولا بين من يمشي على اثنين أو أربع أو على بطنه.
ورحم الله إمامنا مالك حيث قال: “لن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”، والأجمل من هذا قول نبينا عليه الصلاة والسلام: “إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم”.
فأي دين يعنيه عليه الصلاة والسلام؟
أدينه الذي بثه بين الأصحاب فوصلنا بسلسلة رجال ذهبية يرتبط بعضها بعضا؟
أم دين الهجر والتكفير، ودين حدثني قلبي عن ربي، دين فلسفة اليونان الذي أراده البعض أن يحل محل شرعة الله شرعة القرآن!
فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.