• الدُرَّة المنتقاة:
عَنْ أَبِى وَاقِدٍ اللَّيْثِي أَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى حُنَيْنٍ، (وفي لفظ: ونحن حدثاء عهد بكفر)، قَالَ: وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ، يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ. قَالَ: “فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ خَضْرَاءَ عَظِيمَةٍ”. قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «قُلْتُمْ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)، إِنَّهَا الَسُنَنٌ، لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُنَّةً سُنَّةً».
وفي لفظ قال: “الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل “اجعل لنا إلها كما لهم آلهة”، قال: إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم”.
أخرجه الإمام أحمد (21897، 21900) واللفظ له، والترمذي في كتاب الفتن، باب: ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، (2180). وقال: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الألباني. واللفظ الثاني للطبراني (3291) بإسناد صحيح.
• تأملات في الدُّرة:
في هذه الحديث يروي لنا أبو واقد الليثي قصة شهدها حين خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة حنين، مفادها أن بعض الصحابة ممن أسلم حديثا، طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة أن يجعل لهم شجرة يعلقون عليها أسلحتهم، تبركا بها، وطلبا للنصرة على الأعداء، وذلك لما رأوا المشركين يفعلون ذلك، فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: “الله أكبر! إنها السنن”، وبين لهم أن صنيعهم هذا يشبه ما قاله بنو إسرائيل لموسى: “اجعل لنا إلها كما لهم آلهة”، في إشارة منه إلى قوله تعالى: “وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ” (الأعراف:138-140).
فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ما طلبوه منه شرك بالله تعالى، وأخبرهم أن هذه الأمة ستتبع طريق الأمم التي سبقتها، وستقع فيما وقعت فيه من الشرك والمعاصي.
• وَمَضَاتُ الدُّرة:
في هذه الدرة من الفوائد:
1. أن التبرك بالأشجار -خاصة السدر منها- من أعمال الجاهلية الأولى، وليس بالأمر الحادث في هذا الزمان.
2. أن حديث العهد بالكفر والشرك قد يقع منه شيء مما اعتاد عليه قبل الإسلام من الأقوال والأفعال الشركية، فيعذر بذلك بسبب جهله، وغلبة العادة عليه، ولا يحكم عليه بالردة، ولكن يبين له الشرك، ويُعَلَّمُ التوحيد، كما قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى؛ فَلْيَقُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ” (متفق عليه).
3. مشروعية التكبير عند التعجب، وعند معاينة آية من آيات الله.
4. أن التبرك بالأشجار شرك بالله تعالى لا فرق بينه وبين عبادة الأحجار، حيث شبهه النبي صلى الله عليه وسلم به، وجعله مثله.
5. أن التبرك بالأشجار والأحجار عبادة لها بالفعل، كما أن دعاءها والاستغاثة بها عبادة لها بالقول، فلا فرق بين طلب النفع منها بالقول وبين طلبه منها بالفعل.
6. أنه لا يشرع التبرك بالأشجار ولا بالأحجار، ولا بجسد من أجساد الأحياء أو الأموات، ويستثنى من ذلك المسح على الحجر الأسود وتقبيله تعبدا مع الاعتقاد بأنه حجر لا يضر ولا ينفع، وكذلك المسح على الركن اليماني في الطواف، ويستثنى أيضا التبرك بجسد النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، لثبوت ذلك عن الصحابة، وإقراره لهم على ذلك، ولا يتعداه ذلك إلى غيره لعدم تبركهم بجسد خير هذه الأمة بعد نبيها، أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولا بجسد غيره من خيار هذه الأمة.
7. أن هذه الأمة تابعة لسنن الأمم السابقة، ومقتفية أثرها، وأنه سيقع فيها ما وقع في الأمم السابقة من الشرك والمعاصي والآثام، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ: «فَمَنْ» (متفق عليه).
وفي حديث آخر: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلاَنِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ” (أخرجه الترمذي وحسنه، وحسنه كذلك الألباني).
وبهذه المناسبة أود أن أنبه على أن ما يقع في الأمة الإسلامية هذه الأيام من ثورات، هو عين ما وقع في أوروبا منذ قرنين من الزمان، حين قامت الثورة الفرنسية، فالمتأمل بعين البصيرة، يجد أن ثورات الشعوب الإسلامية تتفق مع الثورة الفرنسية شبرا بشبر، ذراعا بذراع، من حيث أسبابها، والداعون لها، والشعارات التي ترفعها.
فالأسباب هي الفقر والظلم والاستبداد، والذين يقفون وراءها هم أدعياء التنوير والتحرر، وشعارها هو الدعوة إلى (الحرية، والإخاء، والمساواة)، وبعبارة أخرى الدعوة إلى (الديمقراطية) ، شعارات ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قبله العذاب.
– فالحرية التي يريدون تعني اللادينية، والتمرد على الأحكام والحدود الشرعية، ومما يدل على ذلك الدعوة إلى حذف المادة الثانية من الدستور المصري، والتي تنص على اعتبار الإسلام دينا رسميا للدولة. ومما يؤكد ذلك أن الدعاة إلى هذه الثورة في المغرب هم أنفسهم الدعاة إلى الإفطار في رمضان، وإلى الشذوذ الجنسي…
– والإخاء الذي يريدون يعني ضرب عقيدة الولاء والبراء -التي هي حصن الدين وسياجه- تحت ستار الوحدة الوطنية، ومن الأمثلة العملية على ذلك، ما حصل في ساحة التحرير المصرية من تطبيع مع عقيدة التثليث النصرانية. والله تعالى يقول: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (المائدة:51).
– والمساواة التي يريدون تتضمن عدم التفريق بين الرجل والمرأة في الميراث، ومما يدل على ذلك أن من المؤيدين للثورة في المغرب رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان (خديجة رياضي)، وهي من أبرز الدعاة إلى المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث متحدية بذلك شريعة ربها.
– والديمقراطية التي يريدون تعني تحكيم الشعب لا تحكيم الشرع، فالله تعالى يقول: “إن الحكم إلا لله”، وهو يقولون : “إن الحكم إلا للشعب”، فإذا كان أسلافهم قالوا: “اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ”، فإن دعاة الثورة اليوم -مقلدين للغرب- يقولون: نريد أن نكون آلهة نشرع كما يشرعون.
وأما نحن فنقول : الله أكبر! إنها السنن.