عاش العالم الإسلامي فترات طويلة من التدهور والجمود، لم تكن فكرته خلالها مطبقة كنظام شامل للحياة، ولم تكن الفتنة الكبرى نكبة على وحدة المسلمين فقط بل أخطر من ذلك، نكبة على الجانب السياسي من النظام الإسلامي هي المسؤولة عن الفكرة الإسلامية، فإن تقويض تلك القيادة يعني أولا وبالذات تقويض الفكرة الإسلامية.
وإن غياب القيادة الفكرية الإسلامية أتاح فرصا لذوي الأغراض والجهلة ليحرفوا الفكرة، ويزيفوا المبادئ ويجمدوا حيويتها، ويؤولوا النصوص الصريحة ليحققوا أهدافا نفعية تافهة، وليباركوا الظلم والهوان.
وقد استمر التدهور حدة وجنونا، ورغم ذلك فإن العالم الإسلامي ظل مرهوب الجانب من لدن الأجانب حتى العهود الأخيرة، نظرا لرصيده السابق، ولكنه كان أشد انخداعا بنفسه من غيره، فاستمر في الغطيط، ولم ينتبه للقوة النامية حواليه، ولا حسب لها حسابها، بل صمم العزم المريض، -إن كان للتدهور عزم- على السير في طريق المأساة، تقوده قيادات مختلفة الضمير في أغلب الأحيان، قوامها الاستبداد، والتحكم، والبطش، والنفاق، ووراء القيادة شعوب لا يزيدها مرور الزمن إلا جهلا بحقائق الإسلام، وقوانين الحياة ومع ذلك، فإن أدمغتها كانت مملوءة بغزو أرعن، وأوهام هوجاء، وذكريات جامدة بل قاتلة، تردد في زهو مضحك مبك “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ”.
ولم يبق لهم من عزة وكرامة إلا تشبثهم الشكلي بهذه “الخيرية”، ولم يريدوا أن يناقشوا أنفسهم في استحقاقهم هذه الصفة، وقد أدركنا من كان يلقبنا بأننا كل شيء وأن غيرنا لا شيء، وبأننا سنسترد الأندلس، وما كنا نخجل نحن أيضا من ترديد هذه التفاهات.
بقينا كذلك حتى وقعت الواقعة وأجهز الاستعمار على الرجل المريض، كما كان يسمى العالم الإسلامي، ومزقه شر ممزق.
وكان أهم ما يهتم به الاستعمار، هو التخطيط الدقيق لاستمرار سيطرته على هذا العالم بكيفية أو بأخرى، وبالفعل فقد أدخل “إصلاحات” على هذه البلاد، وعمل على تركيب العالم الذي استعمره تركيبا جديدا، بأنظمة جديدة، وسلوك جديد، وأفكار جديدة، وبالطبع والبداهة فقد قصد أساسا تكييف الأمور لصالحه.
وازدهرت تصاميمه، وأثمرت أنظمته، وأتت أكلها تربيته وثقافته، وبذلك أصبحت تلك الإصلاحات من “مكاسبنا” من الحضارة الغربية لا ينبغي التنازل عنها، بل إنها ابتدأت تتأصل فينا، وتمازج كياننا، وتؤثر في حياتنا تأثيرا فعالا، وهكذا أمسى العالم الإسلامي يتركب من:
شعوب إسلامية متأخرة (زائد) إصلاحات استعمارية.
وكانت “الديمقراطية” من “أهم” تلك المكاسب، فتكونت أحزاب شتى في العالم الإسلامي يقودها في الغالب أبناء “المدرسة الحديثة” مدرسة الإصلاحات، ونادت بالتحرر من ربقة الاستعمار وبالديمقراطية، ورفعت شعارات مختلفة ومتغيرة حسب المكان والزمان.. وكافحنا، وناضلنا، وخطبنا، وتظاهرنا، ومات من مات، وعاش من عاش “واستقلت” أخيرا بلاد المسلمين، ولكن نمو المركب الجديد قد استمر بل اشتد عوده وقوي بنيانه، فتعقد وتأسس وأصبح يمثل كياننا الحقيقي، ويعكس وجهنا الحقيقي، وقد سمعنا بعض قادة العالم الإسلامي يصرح غداة استقلال بلاده: “إننا وإن حصلنا على استقلالنا فإننا لن نتنازل عن إشعاعات الثقافة التي بثها في بلادنا الاستعمار”.
وهكذا تبين “المركب الجديد” بل أصبغنا عليه صبغة المشروعية والأصالة، وإن كنا أحيانا بدلنا بعض الأسماء للتمويه، كما وقع بالنسبة للقوانين التي شرعها الاستعمار في بلاد المسلمين فإن هذه القوانين لم تلغ في الغالب، وإنما ضمت للبلاد المستعمرة كتركة نفسية ورثناها عن الاستعمار.
وهكذا لم يعد العالم الإسلامي يأخذ من الأجانب العلم والتقنية والمناهج، كما ينبغي لأمة تريد أن تتقدم، بل زاد على ذلك بأن أخذ “يتثقف” بثقافة غيره، غير مفرق بين الثقافة والعلم.
وهكذا أيضا أصبح يتطور في إطار خاص من تصميم غيره، ووضع غيره، ولكن هذا الإطار يضم سبعين رقعة وسبعين اتجاها وسبعين عقلية، وإن كانت القيادة في هذا الخليط العجيب في يد من رأسه في سنة 1964 ورجلاه ضاربتان في سنة 1383 على حد تعبير أستاذنا مالك بن نبي.
وبما أن هذا الإطار يحوي عناصر متنافرة ومتناقضة، فإن الفرد يعيش داخله في حيرة واضطراب، ومن طبيعة ذلك أن تستمر الأمة في التأخر والتدهور، رغم ما قد يبدو من تراكم “أشياء” الحضارة الغربية في البلاد الإسلامية، وذلك ما يسمى بالتكديس، والتكديس لا ينتج حضارة لأن الحضارة بناء، وقد يدفع الشعور بذلك بعض الناس إلى الدعوة إلى الإصلاح، والذين يريدون إصلاح هذا العالم مختلفو المشارب والمذاهب، فهناك من يرى أن الإسلام قد استنفذ أغراضه، ولم يعد صالحا لقيادة هذا العالم، وأعطوا الأولوية للقومية، وهناك من يرى أنه لا بأس من الأخذ من الإسلام مفرقا بين الدين والدولة، ولن يكون كلامنا موجها لهؤلاء، وإنما نتوجه بالكلام لمن يرى الإصلاح في إطار الإسلام.
والإصلاح يعني القيام بتصحيح جزئي للإطار، ولكي يكون الإصلاح مجديا ينبغي أن يكون الإطار المراد إصلاحه جزئيا، متوافق العناصر، منسجم الأجزاء، مرتبط النواحي، لأن الإصلاح حينئذ يجد مساعدة فعالة من الأجزاء الأخرى على إصلاح الخلل الجزئي، أما إذا كان الإطار متنافر العناصر، متناقض الأجزاء، متضارب النواحي، فإن الإصلاح لا يكون حينئذ شاذا دون غيره ويشتكي الخلال وحده، بل الإطار كله يعاني الشذوذ والمرض، ولذلك فإن المناداة بالإصلاح الجزئي تكون مفيدة إذا كان ذلك الجزء قد شذ عن الإطار كله، أما وأن الإطار يكاد يكون كله شاذا فالإصلاح الجزئي ضئيل الفائدة، إن لم يكن عديمها.
والعالم الإسلامي من هذا القبيل: إطار شاذ جله، متنافر العناصر يضم كما قلنا سبعين رقعة وسبعين لونا وسبعين عقلية، فهو في حاجة إلى نسف من أساسه، إلى تغيير جذري عميق في كيانه لتكوين إطار جديد منسجم الأجزاء، وكل محاولة أو دعوة لإصلاح جزئي فهي في نظرنا عبث وتضييع الفرصة على العالم الإسلامي لاستدراك نفسه.
فالذين ينادون بإلغاء البنوك مثلا، باعتبار أن معاملاتها ربوية، ينسون أن العالم الإسلامي يتبنى الرأسمالية، وأن البنوك أصبحت من صميم كياننا، مرتبطة أشد ما يكون الارتباط بالنواحي الأخرى في حياتنا، فالقضاء عليها، يقتضي قضاء على كل ما يرتبط بها ويغذيها من العناصر الأخرى، فالعالم الإسلامي في الواقع يعيش في ظل دولة إسلامية وحضارة إسلامية، وإنما يعيش في أنظمة تعتمد على كثير مما نراه مخالفا للفكرة الإسلامية ومنه البنوك ولذلك فنحن أمام أمرين:
إما أن نغير الإطار كله أي أن نؤسس دولة إسلامية فكرة وسلوكا أو نعيش، أحب من أحب وكره من كره، في الإطار الذي يحلل الربا وينظر لغيرها من المحرمات والموبقات نظرة خاصة تصادم الفكرة الإسلامية.
أما الإصلاح الجزئي فإنه لا يفيد الفكرة الإسلامية لأنه غير مجد فالفساد لا يحب إلا الفساد وكل إصلاح في إطار الفساد فساد، لأن التحلية لا تكون إلا بعد التخلية كما يقول الصوفية، ولأن عناصر الإطار الأخرى تصارع كل محاولة جزئية للإصلاح وسلبها فعاليتها، وتعطل مهمتها، ولذلك فإن العالم الإسلامي ليس في حاجة إلى إصلاح، لأن سياسة الإصلاح، لقيت أنواعا من الفشل منذ قرون، وإنما هو في أمس الحاجة إلى ثورة اجتماعية شاملة، أساسها دولة لها أيديولوجية إسلامية تعمل بها وتنشرها، لأن من طبيعة الثورة الحقة أن تمتد لكل نواحي الحياة وتنسف الفاسد منها نسفا، وتغيرها جذريا دون تصالح أو تفاهم، وتكون لنفسها إطارا خاصا بها، تنمو عناصر الأمة داخله في انسجام، وتزدهر منابع الحياة فيه في وئام واطراد وتفاعل خلاق، فإذا وقع بعد ذلك خلل جزئي فإن الإصلاح يكون حينئذ معقولا وسهلا وممكنا.
وإذا كانت حاجة العالم الإسلامي إلى ثورة اجتماعية شاملة فإن أي منظمة أو جماعة لا تعمل للاستجابة لهذه الحاجة فإنما هي تغالط نفسها والعالم الإسلامي، وتجهل أو تتجاهل طبيعة حاجة هذه الأمة، وطبيعة الإسلام في هذه الحياة.
فالله لم يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم مصلحا بالمعنى الجزئي وإنما داعيا الناس لما يحييهم، وصاحب رسالة، والرسالة حضارة، والحضارة نظام شامل للإنسان والحياة، وقد تخلى المسلمون عن هذه الرسالة ولن يصلح أمرهم، إلا بإعادتها، والإصلاح الجزئي عاجز طبيعة عن هذه الإعادة، والثورة الاجتماعية الإسلامية هي وحدها الكفيلة بقيادة المسلمين من جديد ليحملوا عبء الرسالة الإنسانية ونشرها في هذا العالم الجديد.
عبد السلام الهراس
مجلة دعوة الحق العدد الرابع
السنة السابعة يناير 1964-رمضان 1383