أحداث قبل قنبلة الدار البيضاء
سنرجع بالتاريخ سنة قبل هذه المجرزة حتى نفهم الأسباب التي دفعت الفرنسيين إلى ارتكاب هذه المجزرة الشنيعة في حق أهل الشاوية.
فمنذ إعلان ميثاق الجزيرة الخضراء سنة 1906م تأزمت العلاقات المغربية الفرنسية، وبدأ المحتل الفرنسي يبحث عن أقصر السبل لفرض سيطرته على المغرب، كما تزايدت ردود الفعل الشعبية ضد السياسة الفرنسية الجديدة، التي بدأت تعتمد على مضاعفة الضغوط على المخزن لتحصل على المزيد من المكتسبات.
ومن الحوادث التي كانت لها دور كبير في تسريع السيطرة الفرنسية، حادث مقتل الدكتور موشان بمراكش يوم 19 مارس 1907م الذي عقبه احتلال وجدة الذي ترتب عنه جلوس مراقبين فرنسيين بجانب الأمناء المغاربة في الديوانات لمراقبة الصادرات والوارادات، وتسلم 60% من المداخيل لرد قرض 1904م وهو الأمر الذي اتقف على تنفيذه في 24 يوليوز 1907م.
أثار هذا الجلوس للفرنسيين بجانب الأمناء في الجمارك ردود فعل غاضبة في جميع الموانئ وبخاصة في الدار البيضاء، وفي قبائل الشاوية المجاورة حيث قدم وفد من أعيانهم إلى السلطات المغربية بالمدينة، وطالبها بضرورة إبعاد المراقبين الفرنسيين من الجمارك، وتوقيف أشغال الشركة الفرنسية، ولما لم يتوصلوا بأي نتيجة لطلبهم، ذهبت طائفة من السكان يوم 30 يوليوز إلى أوراش المرسى، وشرعت في توقيف الأشغال فوقع اشتباك أسفر عن مقتل تسعة عمال أجانب، من بينهم ثلاثة فرنسيين وبعض المغاربة، كما أعلنت مقاطعة التعامل مع الجالية الفرنسية بالمدينة.
استغل الفرنسيين هذا الحادث وقلبوا الحقائق حيث أصدر “الكون تدوسان أولير” القائم بأشغال المفوضية الفرنسية بطنجة بيانات تتهم المغاربة بالتمثيل بجثث الفرنسيين ورميها في البحر، وحث حكومته على التدخل العسكري لتلقين المغاربة درسا قاسيا، وأمر قائد إحدى السفن الحربية الفرنسية بالتوجه نحو الدار البيضاء، وأملى على لسان جمعية وهمية سماها جمعية الشغالين الفرنسيين بالمغرب، برقية تدعو الحكومة الفرنسية إلى التدخل السريع قصد الثأر للقتلى!
في الواقع لم تكن الأوساط الاستعمارية الفرنسية في حاجة إلى هذا الإخراج المسرحي للأحداث، بل قررت في 2 غشت 1907م إرسال حملة عسكرية لاحتلال الدار البيضاء، مدعية بأن هدف الحملة معاقبة قبائل الشاوية، وبأن الاحتلال سيكون مؤقتا، وأن عملها يهدف إلى تنظيم “البوليس” بالدار البيضاء بالتعاون مع المخزن حسبما تقرر في مؤتمر الجزيرة الخضراء.
قنبلة الدار البيضاء وتخريبها 5-7 غشت 1907م
قبل أن يصل الأسطول الفرنسي إلى الدار البيضاء شرع قائد السفينة كليلي التي أرسلت من طنجة في قصف الأحياء الشعبية في صباح 5 غشت، بعد أن غدر بحارته -الذين اتفقوا مع السلطات المغربية على نزولهم لحماية القنصلية الفرنسية- بالجنود المغاربة، الذين كانوا يحرسون القنصلية وباب المرسى حيث أردوهم قتلى، وهكذا كانت العملية التي أقدم عليها قائد السفينة الفرنسية، تنفيذا لمؤامرة مبيتة ضد المغاربة، بهدف إرهابهم وإظهار قسوة رد فعل الفرنسيين، أما قصف الأحياء الشعبية فقد نتجت عنه مذبحة فضيعة بحي التناكر، واستمر القصف دون انقطاع، وتعزز بوصول بارجتين حربيتين فرنسيتين أخريين.
المقاومة الشعبية بالدار البيضاء
يبدو أن الأوساط الاستعمارية الفرنسية التي انتشت باحتلال وجدة دون مقاومة في مارس 1907م، كانت تحسب أن مذبحة الدار البيضاء ستدفع المغاربة إلى الخضوع للاحتلال دون مقاومة، بيد أن حسابها كان خاطئا ونظرها كان قاصرا، فعلى الرغم من الصدمة القوية التي فاجأت المغاربة فقد هبوا للدفاع عن أنفسهم؛ تحفزهم حمية الجهاد والرغبة في الانتقام من الغزاة.
وهكذا حوصر حي القناصل، الذي تعرض لهجمات قوية، وخاصة ضد القنصلية الفرنسية التي تحصن البحارة فيها، وهم يطلقون نيرانهم من الأسلحة الرشاشة، والمدافع الميدانية (عيار 66 مم) والبحرية (عيار 37 مم)، الأمر الذي مكنهم من إبعاد كل خطر عليهم، كما ظلت مدافع البوارج الراسية بالمرسى مستمرة في قصف جماعات المجاهدين الوافدين على المدينة، وخلال الليل اشتد ضغط المغاربة الذين نظموا هجوما عنيفا من جهة القنصيلة الإسبانية والقنصلية البريطانية، وكان الهجوم شديدا اضطر معه القنصل البريطاني إلى جمع أوراقه وحرق “شيفرته”.
واستمر القتال بعنف يومي 6-7 غشت، حيث حاول المغاربة اقتحام القنصلية الفرنسية مما أدى إلى سقوط قتلى بين الفرنسيين والإسبان، وأصبح موقف الفرنسيين حرجا يوم 7غشت، لكن وصول الحملة الفرنسية أنقذ الموقف، إذ بدأ الأسطول في قصف أمكنة تجمع المغاربة، مما أدى إلى ارتكاب مذابح رهيبة مثل مذبحة السور الجديد، ثم نزل الجنود الحملة الفرنسية الذين سيطروا على المدينة ونشروا فيها الموت والفزع.
لم يتمكن جيش الاحتلال من الخروج من المدينة المخربة بل أصبح معرضا لهجمات يومية نتجت عنها معارك؛ أبان فيها المغاربة عن ضروب من الشجاعة والإقدام أدهشوا بها أعداءهم وأثاروا إعجاب الصحافة الدولية، الأمر الذي حفز همم المجاهدين الذين جاؤوا من القبائل المجاورة ومن الأطلس المتوسط وتافلالت، للمرابطة حول الدار البيضاء وقتال المحتلين.
حتى الجنرال درود أدهشته تعبئة المغاربة وجسارتهم، وبعث يوم 10 غشت برقية يطلب فيها مزيدا من الإمدادات العسكرية بإلحاح، ووصف قتال المغاربة بقوله: “إنهم يتحركون مثلنا بالضبط، إن رميهم أكثر دقة وتصويبا، لولا أن رجالنا مختبئون جيدا في الخنادق لكنا فقدنا ضحايا عديدة”.
وقد ترددت هذه الحقيقة على لسان الشاعر الشعبي عبد الهادي بناني الذي كتب قائلا:
طاحْ ميمون الكفر كبار وصغار صادف لمحان والفتان والخسارا
كم من كافر للرباط دخل عريان هذي هانا وليس تسببها هانا
فروا وتفرقوا على جميع البلدان رهوط كثار جات منهم عريانا
هذه هي وحشية المحتل الظالم المغتصب للأرض والهاتك للعرض والقاتل للولد كيف تصدى لها الرجال الأشاوس من أبناء المغرب الحبيب، لكن الظروف التي كانت تمر بها البلاد من الخيانات العظمى للدين والوطن، وبيع الآخرة بالدنيا، وحب المال، ومظاهرة الكافر المحتل على المسلم صاحب الدار، حالت دون تحقيق النصر عليه.
انظر موسوعة الحركة الوطنية
والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب
الجزء 1 المجلد 1 الصفحة 102-107