ما أحسن ما جادت به قريحة الإمام الشاطبي رحمه الله حيث قال: “من طلب خلاص نفسه، تثبت حتى يتضح له الطريق، ومن تساهل رمته أيدي الهوى في معاطب، ولا مخلص له منها إلا ما شاء الله”1.
ولذا فمن المثالب في رياض العلم، وطريق الدعوة: (الضعف في ضبط القواعد)! و(عدم التبين لصور ووصف المقاصد)!! فينتج عن ذلك (خلل في فهم الشاهد)، وربما (اتباع ما شاع من العوائد)…
وفي التخصص اضْبُطِ القواعدا قبل التفاريع لكي تساعدا
ومن هذه المسائل التي حصل فيها خلل في التصور ونحن في ميادين الإصلاح ما له صلة بقاعدة (السنة التركية)، وعلاقة ذلك بـ(الوسائل الدعوية)..
قال الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله: “من أراد صلاح المجتمع الإسلامي، أو صلاح المجتمعات الأخرى في هذه الدنيا بغير الطريق والوسائل والعوامل التي صلح بها الأولون فقد غلط، وقال غير الحق.
فليس إلى غير هذا من سبيل، وإنما السبيل إلى إصلاح الناس وإقامتهم على الطريق السوي، هو السبيل الذي درج عليه نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ودرج عليه صحابته الكرام، ثم أتباعهم بإحسان إلى يومنا هذا”2.
فوسائل الدعوة -يا رعاكم الله- يجب أن يُنظر فيها وفق أصول الدين وقواعده، وتقريرات الشرع وضوابطه بعيدا عن التهور والاندفاع العاطفي، وترك الحكمة في معالجة الأمور، فإن هذه الأخيرة لا تغير الفاسد من الأوضاع، ولا تُقَوِّم ما انحرف من الطباع، ولا تصلح سيء الأحوال، ولا ترفع الظلم بحال!!
فليعلم أن “الدعوة تتكون من وسيلة وغاية.
فحقيقة الدعوة (الغاية) توقيفية، لا مجال للاجتهاد فيها.
حقيقة الدعوة أمر ثابت لا يتغير.
حقيقة الدعوة أمر ثابت لا يتحول.
حقيقة الدعوة أمر ثابت لا يتغير بتغير الأزمان والمكان والأحوال.
و(الأصل) في وسائل نشر الدعوة كذلك التوقيف على منهاج النبوة..”3.
وعليه فلا يجوز اعتقاد شرعية وسيلة في باب الدعوة اعتمادا على تحقيقها للمصلحة في ذهن الناظر، دون ربطها علميا بقاعدة (السنة التركية) للخلوص إلى حكم سديد، والسير على مسلك رشيد..
فنقول بيانا للحال، وإيضاحا لما يعرض من إشكال: “لا خلاف بين الأمة في الاستدلال بأفعال النبي عليه الصلاة والسلام على الأحكام”4، ومما يدخل في أفعاله عليه الصلاة والسلام ما يسمى بـ(السنة التركية) عند أرباب الصنعة الأصولية5، وهو الصواب بلا ارتياب كما قال صاحب المراقي:
فكلنا بالنهي مطلوب النبي *** والترك فعل في صحيح المذهب
والدليل على ذلك اللغة والكتاب والسنة والآثار.
أما في اللغة فقد أورد العلماء ما جاء عن قائل من المسلمين من الأنصار والنبي عليه الصلاة والسلام يعمل بنفسه في بناء مسجده من شعر:
لئن قعدنا والنبي يعمل*** لذاك منا العمل المضلل
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: “فمعنى قعدنا: تركنا الاشتغال ببناء المسجد، وقد سمى هذا الترك عملا في قوله: لذاك منا العمل المضلل”6.
ومن القرآن قوله تعالى: (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ).
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: “فقد سمى جل وعلا في هذه الآية الكريمة تركهم التناهي عن المنكر فعلا..، وصراحة دلالة هذه الآية.. على ما ذكر واضحة كما ترى”7.
ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” رواه البخاري.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: “فسمي ترك الأذى إسلاما، وهو يدل على أن الترك فعل”8.
ومن الآثار قول أبي هريرة رضي الله عنه لمروان: “أحللت بيع الربا يا مروان” وهو عند مسلم.
قال الزرقاني رحمه الله: “وفيه أن الترك فعل، لأنه لم يحل الربا، وإنما ترك النهي.9”
ومن تم فـ”التأسي برسول الله عليه الصلاة والسلام في الفعل أي: أن تفعل كما فعل لأجل أنه فعل.
وأما التأسي في الترك: فهو أن تترك ما تركه لأجل أنه تركه”10.
فالاتباع إذن لسنته عليه الصلاة والسلام يكون بفعل ما ورد فعله، وترك ما ورد تركه؛ وهذا بدوره يرجع إلى فعله عليه الصلاة والسلام على التحقيق كما مر قريبا.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: “ولكننا نتبع السنة فعلا أو تركا”11.
ومن الصور12 التي تدخل في السنة التركية: أن (الوسيلة في باب الدعوة) وإن كانت تدخل ظاهريا في (الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)، أو (في وسيلة من وسائل البيان)، أو (تحقيق الذات)، وما أشبه ذلك، إذا كان المقتضي لفعلها قائما في عهد السلف الصالح، ولم يعملوا بها، مع عدم المانع، نعلم أنها مُطَّرحة في الدين، يجب تركها13 لكونها بدعة وضلالة، وهذه قاعدة من القواعد التي لا تنخرم عند المحققين في باب المحدثات والبدع، فتأمل وبالعلم تجمل.
ومنه فإن إعمال هذه القاعدة المندرجة تحت مفهوم السنة التركية يرجع إلى إحكام شرطين اثنين وهما:
أولا: قيام المقتضي للفعل قطعا أو مظنة، فـ”ما تركه صلى الله عليه وسلم مع قيام المقتضي فيكون تركه سنة، وفعله بدعة مذمومة”14.
قال الإمام ابن رشد المالكي رحمه الله في معرض تقريره لوجه الاستدلال على أمر نهى عنه الإمام مالك رحمه الله: “..واستدلاله على أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل، صحيح إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين وقد أمروا بالتبليغ. وهذا أيضا من الأصول”15.
ثانيا: انتفاء المانع، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في معرض تقريره لبدعية الأذان في العيدين: “فأما ما كان المقتضي لفعله موجودا، لو كان مصلحة، وهو مع هذا لم يشرعه، فوضعه تغيير لدين الله، وإنما أدخله فيه من نسب إلى تغيير الدين من الملوك والعلماء والعباد، أو من زل منهم باجتهاد..
بل يقال: ترك رسول الله عليه الصلاة والسلام له مع وجود ما يعتقد مقتضيا وزوال المانع: سنة، كما أن فعله عليه الصلاة والسلام سنة..
فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضي له، وزوال المانع، لو كان خيرا”16.
فمن العجيب بعد هذا البيان أن يقال بجواز وسيلة من وسائل الدعوة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك مع أنها مُطَّرحة وفق القاعدة المقررة سلفا بدعوى (أن الأصل في الأشياء الإباحة)!، وبأنه (لا يوجد نص خاص على النهي)! وبأن (عمومات النصوص تدل على المشروعية)!! هكذا بإطلاق، مما يدل على أن النظر في هذه الأبواب العلمية قد أصيب بقرحة، أو كان في الأصل كذلك، والله المستعان.
اعلم -جملك الله بالفهم- أن “..كل ما يبديه المُحْدِثُ لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتا على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع هذا لم يفعله رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهذا الترك سنة خاصة، مقدمة على كل عموم وكل قياس”17، إضافة إلى أن (السنة التركية) إذا تحققت وفق القواعد العلية، فهي (بمنزلة النص)، وعليه فمخالفتها مخالفة للنص، كما قرره الإمام الشاطبي رحمه الله في معرض الحديث عن أنواع سكوت الشارع عن الحكم حيث قال: “..أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم، فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان.
فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص، لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودا، ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه، كان ذلك صريحا في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة، ومخالفة لما قصده الشارع18، إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك، لا الزيادة عليه ولا النقصان”19.
فالله الله في إحكام هذا المبحث ومضغه لبلعه لتعلقه بوسائل الدعوة، ومسالك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأساليب البيان، ونحو ذلك حيث إذا لم يحكم في زمن الفتن خاصة، وكثرة التغيرات، فسدت التصرفات..
كما أخشى إذا لم ينضبط الأمر أن يقع التفلت من القواعد الشرعية، والضوابط المرعية في هذه الأبواب تحت قوالب جذابة، وألفاظ عذبة، وأسماء براقة 20 -بغض النظر عن حقيقة النية والقصد-، فيتكرر ما حصل قَبْلُ من بعض المشتغلين في ساحة الدعوة الإسلامية تحت شعار: (سلفية العقيدة، عصرية المواجهة!)21، انحرافا جديدا، وتحزبا أكيدا..
وصفوة الكلام أن “الوسائل للدعوة هي في عصرنا وفيما قبله وبعده لا بد أن تكون هي وسائل الدعوة التي بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام، وبلغ بها الغاية. ولا تختلف في عصرنا مثلا إلا في جوانب منها مرتبطة بأصولها التوقيفية”22.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الاعتصام 2/125.
2. مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز 1/249.
3. حكم الإنتماء للشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد رحمه الله 157.
4. المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسن البصري رحمه الله 1/347، وقيل: هناك من خالف(!)، والجمهور “على أننا متعبدون بالتأسي به في فعله، واجبا كان أو مندوبا أو مباحا” الإحكام للآمدي رحمه الله 1/242.
5. وهو مذهب الجمهور، انظر “دليل الترك بين المحدثين والأصوليين” لأحمد كافي 139 و144 فما بعدها.
6. المذكرة في أصول الفقه 39، وانظر طبقات الشافعية الكبرى للسبكي رحمه الله 1/99.
7. أضواء البيان 6/256.
8. المذكرة 39.
9. شرح الزرقاني على الموطأ 3/369.
10. شرح الكوكب المنير لابن النجار 2/196.
11. الفتح 3/475.
12. هناك صور متعددة ومختلفة تندرج تحت ما يسمى بـ(السنة التركية)، انظر رسالة: “سنة الترك ودلالتها على الأحكام الشرعية” للجيزاني.
13. وقد اصطلح على هذا بـ”الترك الوجودي”، انظر كتاب (الترك عند الأصوليين) لمحمد ربحي محمد ملاح.
14. قاله الشيخ محفوظ رحمه الله في الإبداع في مضار الابتداع 33، نقلا عن الإمام ابن حجر الهيثمي رحمه الله في فتاويه.
15. البيان والتحصيل 1/393، وقد نقله عنه الإمام القرافي المالكي رحمه الله في الفروق 4/349 مع الهوامش.
16. اقتضاء الصراط المستقيم 2/594.
17. نفسه.
18. ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله هذا الكلام في معرض الحديث عن مقاصد الشريعة، إذ من الضوابط التي تعرف بها هذه الأخيرة كما قرره رحمه الله: “السكوت عن شرع التسبب، أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضي له”، وعليه فقد زل زلا مقاصديا فاحشا(!!) من قرر مشروعية بعض الواسائل بدعوى تحقيقها لمقصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دون الالتفات إلى هذا الضابط الذي قرره الشاطبي من جملة الضوابط التي تعرفنا بحقيقة المقاصد الشرعية، والذي يحدد لنا صورة ووصف المقصد الشرعي، وهذه ما يعقلها إلا العالمون، وانظر كتاب (ضوابط إعمال مقاصد الشريعة في الاجتهاد) لمحمد اليوبي ص: 37-38.
19. الموافقات 2/409.
20. الأسماء لا تغير الحقائق، ولا المسميات، إذ “لا يدل اشتراك المسميات في الأسماء على اشتراكهما في المعاني والأحكام” شرح ابن بطال رحمه الله على صحيح البخاري 3/555.
21. قد يراد بقول: (عصرية المواجهة) استخدام الوسائل العصرية وفقا للأصول الشرعية، لكن عمل من رفع هذا الشعار على خلاف ذلك، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه المقولة توحي بأن المنهج السلفي لا تشتمل طرائقه على ما يكفي في ذلك(!!)، ولا يتذرع لقبول هذه المقولة بقول العلماء: (لا مشاحة في الاصطلاح)، لأن هذه الأخيرة مضبوطة بضوابط منها قول الصفدي رحمه الله: “لا مشاحة في الاصطلاح.. والاصطلاح والتواضع لا يعاب فيهما أحد ولا يغلط، اللهم إلا إن وقع خلل في القواعد التي استقرت، وهذا أمر ظاهر” تصحيح التصحيف وتحرير التحريف 56، ولذا قال العلامة صالح آل الشيخ حفظه الله: “يخطئ من يقول إن عقيدتنا ينبغي أن تكون عقيدة سلفية، ولكن تكون المواجهة مواجهة عصرية، هذا من الأغلاط لأن العقيدة السلفية تشمل المواجهة، فالمواجهة جزء من العقيدة؛ لكن كيف تكون المواجهة؟ يجب أن يرجع فيها إلى ضوابط السلف الصالح”من شريط مهمات في العقيدة والمنهج.
22. حكم الانتماء للشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد رحمه الله 160.