إلى كل خطيب شرفه الله تعالى بأن يقوم في مقام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة؛ إلى كل داعية إلى الله أكرمه الله تعالى بأحسن الوظائف وأشرفها؛ إلى كل واعظ يصل الناس بربهم ويناهاهم عن غيهم. إليكم أتوجه بهذه الكلمات التي أرجو أن تجد منكم آذانا صاغية وقلوبا واعية، فأقول وبالله التوفيق:
لا يخفى عليكم -حفظكم الله- خطورة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى عليكم إن شاء الله ما ورد في ذلك من الأحاديث النبوية، والتي منها:
• قوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ” (متفق عليه)، وفي لفظ: «مَنْ يَقُلْ عَلَىَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (البخاري). وقد جاءت أحاديث في ذم التساهل في رواية الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم من غير تثبت، ومن ذلك:
• قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» (رواه مسلم في مقدمة صحيحه).
• وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» (رواه مسلم في مقدمة صحيحه).
• وكذلك قال عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: “بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع” (رواه مسلم في مقدمة صحيحه).
• وقال ابن وهب: قال: قال لي مالك: “اعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع، ولا يكون إماما أبدا وهو يحدث بكل ما سمع” (مسلم في مقدمة صحيحه).
• قال النووي في شرحه لهذه الأحاديث والآثار: “ففيها الزجر عن التحديث بكل ما سمع الإنسان؛ فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب” (شرح النووي على مسلم1/75).
ولذلك كان الصحابة يتحرجون جدا من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، خشية أن يقع منهم غلط أو زيادة أو نقص من اللفظ النبوي، فهذا عبد الله بن الزبير قال لأبيه الزبير بن العوام: إِنِّي لاَ أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ. قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار» (أخرجه البخاري) .
وهذا عبد الله بن مسعود يروي عنه عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: مَا أَخْطَأَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ عَشِيَّةَ خَمِيسٍ إِلاَّ أَتَيْتُهُ فِيهِ، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ لِشَىْءٍ قَطُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ، فَنَكَسَ. قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَهُوَ قَائِمٌ، مُحَلَّلَةً أَزْرَارُ قَمِيصِهِ، قَدِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، قَالَ: أَوْ دُونَ ذَلِكَ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ شَبِيهًا بِذَلِكَ. (أخرجه ابن ماجه وصححه الهيثمي والألباني).
ولعل الذي جعل بعض الخطباء يتساهلون في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شاع وانتشر بين الوعاظ “جواز رواية الحديث الضعيف في فضائل الأعمال والعمل به”، وقد فاتتهم أمور مهمة لم ينتبهوا لها:
الأول: أن هذا الكلام ذكره العلماء في الحديث الضعيف وليس في الحديث الموضوع المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الأخير لا تجوز روايته بالإجماع إلا مع بيان حاله والتحذير منه، سواء كان في العقائد أو الأحكام أو الفضائل.
قال ابن الصلاح: “اعلم أن الحديث الموضوع شر الأحاديث الضعيفة، ولا تحل روايته لأحد علم حاله، في أي معنى كان، إلا مقروناً ببيان وضعه” (مقدمة ابن الصلاح ص18).
قال السيوطي شارحا: [في أي معنى كان]: “سواء الأحكام، والقَصَص، والتَّرغيب وغيرها” (تدريب الراوي 1/212).
الثاني: أن العلماء اشترطوا للأخذ بالحديث في فضائل الأعمال شروطا:
• أحدها: أن يَكُون الضَّعف غير شديد، فيَخْرُج من انفرد من الكذَّابين والمُتَّهمين بالكذب، ومن فَحُش غلطه، نقل العلائي الاتفاق عليه.
• الثاني: أن يَنْدرج تحت أصل مَعْمُول به.
• الثَّالث: أن لا يعتقد عند العَمَل به ثُبوته.
هذان الشرطان ذكرهُمَا ابن عبد السَّلام وابن دقيق العِيد. (ينظر تدريب الراوي 1/233).
ومعنى اندراجه تحت أصل معمول به: أن ما تضمنه هذا الحديث الضعيف من العمل قد ثبت من وجه آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الحديث الضعيف ذكر لذلك العمل ثوابا خاصا، أو فضيلة خاصة.
مثال ذلك: حديث ضعيف ضعفا يسيرا في فضل قول: “سبحان الله وبحمده”.
وقد اشترط العلماء لرواية الحديث الضعيف أن يساق بصيغة التمريض، فلا يقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يقال: “رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا” أو نحو ذلك من العبارات التي ليس فيها جزم (ينظر تدريب الراوي 1/232).
والذي تقتضيه النصيحة لعوام المسلمين، هو أن يبين لهم ضعفه، حتى لا ينشروه بينهم على أنه حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن العوام لا يميزون بين صيغة الجزم وصيغة التمريض، فإذا لم يبين لهم ضعف الحديث اعتقدوا أنه سنة صحيحة، وربما نقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم جازمين.
قال الحافظ ابن حجر في “تبيين العجب” (ص:3-4): “اشتهر أن أهل العلم يتساهلون في إيراد الأحاديث في الفضائل وإن كان فيها ضعف ما لم تكن موضوعة، وينبغي مع ذلك اشتراط أن يعتقد العامل كون ذلك الحديث ضعيفا، وأن لا يشهر ذلك؛ لئلا يعمل المرء بحديث ضعيف فيشرع ما ليس بشرع، أو يراه بعض الجهال فيظن أنه سنة صحيحة، وقد صرح بمعنى ذلك الأستاذ أبو محمد بن عبد السلام وغيره، وليحذر المرء من دخوله تحت قوله صلى الله عليه وآله: “من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين”، فكيف بمن عمل به؟! ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام أو في الفضائل إذ الكل شرع”.
الثالث: أن من أهل العلم من منع العمل بالحديث الضعيف مطلقا، ورأى أن في الصحيح غنية عنه، ومنهم الإمامان البخاري ومسلم، فإنهما لم يفرقا في صحيحيهما بين الأحكام والفضائل، بل إن سبب تأليف مسلم لصحيحه هو ما رآه من تساهل بعض الناس في الاستدلال بالأحاديث الضعيفة، كما يدل على ذلك قوله في مقدمة صحيحه (1/4): “…وبعد يرحمك الله فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثا فيما يلزمهم، من طرح الأحاديث الضعيفة والروايات المنكرة، وتركهم الاقتصار على الأحاديث الصحيحة المشهورة، مما نقله الثقات المعروفين بالصدق والأمانة، بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرا مما يقذفون به إلى الأغبياء من الناس هو مستنكر ومنقول عن قوم غير مرضيين… لما سَهُلَ عَلَيْنَا الانتصاب لما سألت من التمييز والتحصيل، ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت”.
وقال رحمه الله بعد أن ذكر نماذج من كلام أهل العلم في الرواة المتهمين: “وإنما ألزموا أنفسهم، الكشف عن معايب رواة الحديث، وناقلي الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا؛ لما فيه من عظيم الخطر؛ إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم أو أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثما بفعله ذلك، غاشا لعوام المسلمين؛ إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار التي يستعملها أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع” (مقدمة مسلم 1/12).
وقد قال بالمنع من العمل بالضعيف مطلقا أبو بكر بن العربي، والشوكاني، ومن المعاصرين أحمد شاكر، والألباني رحمهم الله جميعا.
ولا شك أن هذا القول أحوط، وأبعد من الوقوع في نسبة الكذب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة وأن في الأحاديث الصحيحة ما يغني عن الضعيف والموضوع، كما تقدم عن الإمام مسلم، ومثله قول ابن حبان: “لسنا نستجيز أن نحتج بخبر لا يصح من جهة النقل في شيء من كتبنا ولأن فيما يصح من الأخبار بحمد الله ما يغني عن الاحتجاج في الدين بما لا يصح فيها”. المجروحين (1/25).
وقد ترتب على القول بإجازة العمل بالضعيف في الفضائل توسع غير محمود، وعدم مراعاة للشروط التي وضعها القائلون بجواز العمل بالضعيف في فضائل الأعمال، فنتج عن ذلك انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن أبيت -أخي الخطيب- إلا الاستدلال بالضعيف في فضائل الأعمال فلا أَقَل من أن تلتزم بالشروط والقيود التي ذكرها القائلون بالجواز، ولا تنس أن تسوقها بصيغة التمريض، وأن تبين ضعفها نصيحة لله ورسوله ولعوام الناس، وإبراء للذمة فيما بينك وبين الله، ولا تتساهل في رواية كل ما تسمع؛ فيكون النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة خصمك.
والله تعالى أسأل أن يوفق خطباءنا لما فيه رضاه، وأن يجزيهم خيرا عن الإسلام والمسلمين. والحمد لله رب العالمين.