استغراب على مستوى المنهج
إذا كان الأستاذ عابد الجابري لم يذخر جهدا في توجيه اللوم لأصحاب (النموذج السلف) في دراسة التراث، ونعتهم بالتقليد والتبعية والذوبان في شخصية الآخر، فلم -يا ترى- يسمح لنفسه باستخدام الطرق والأدوات المنهجية الغربية المستوردة من العالم الغربي الليبرالي في تحليل وفهم التراث العربي الإسلامي؟ ألا يعبر هذا عن تناقض صارخ؟
يقول الأستاذ عابد الجابري في كتابه “نحن والتراث”: «كيف نتحرر من سلطة التراث علينا؟ كيف نمارس نحن سلطتنا عليه؟ تلك هي مهمة المنهج الذي نقترحه هنـا. إنه منهج تحليلي، ولكن لا بمعنى رد المركب إلى البسيط أو البسائط التي يتألف منها، كما يفعل العالم الكيميائي حين يحلل الماء، وهو مركب، إلى العنصرين البسيطين اللذين يتألف منهما: الأكسجين والهيدروجين، لا. إن التحليل في المنهج الذي نمارسه شيء آخر مختلف تماما: إنه ينطلق من النظر إلى موضوعاته لا بوصفها مجرد مركبات بل بوصفها بنى. وإذا كـان صحيحا أن لكل مركب بنية فإن تحليل المركب يختلف عن تحليل البنيـة: تحليل المركب يعني عزل العناصر التي يتألف منها وفرزها، في حين أن تحليل البنية معناه كشف الغطاء عن العلاقات القائمة بين عناصرها بوصفها منظومة من العلاقة الثابتة في إطار بعض التحولات.
إن تحليل البنية معناه القضاء عليها بتحويل ثوابتها إلى تحولات ليس غير، وبالتالي التحرر من سلطتها وفتح المجال لممارسة سلطتنا عليها، هذا النوع من التحليل هو ما أسميه هنا بـ “التفكيك”: تفكيك العلاقات الثابتة في بنية ما بهـدف تحويلها إلى لا بنية، إلى مجرد تحولات. وهذا يندرج تحته، كما هو واضح، تحويل الثابت إلى متغير، والمطلق إلى نسبي، واللاتاريخي إلى تاريخي، واللازمني إلى زمني، وبالتالي الكشف عن المعقولية الثاوية وراء كثير من الأمور التي تقدم نفسها كسر مغلق، كميدان للامعقول مستغن عن المعقولية بفعل التقادم الذي يجعل التراث مقطوع الصلة عن زمانيته وأسباب نزوله»1.
ويقول أيضا: «لابد من التمييز بين خطوات ثلاث في البحث، من أجل تحقيق الحد الأدنى من الموضوعية في دراسة التراث:
الخطوة الأولى: قوامها المعالجة البنيوية، ونقصد الانطـلاق في دراسة التراث من النصوص كما هي معطاة لنا. إن هذا يعني ضرورة وضع جميع أنواع الفهم السابقة لقضايا التراث بين قوسين، والاقتصار على التعامل مع النصوص كمدونة ككل تتحكم فيه ثوابت يغتني بالتغيرات التي تجري عليه حول محور واحد.
هذا يقتضي محورة فكرة صاحب النص (مؤلف، فرقة، تيار..) حول إشكالية واضحة قادرة على استيعاب جميع التحولات التي يتحرك بها ومن خلالها فكر صاحب النص، بحيث تجد كل فكرة من أفكاره مكانها الطبيعي (أي المبرر أو القابل للتبرير) داخل الكل.
إن القاعدة الذهبية في هذه الخطوة الأولى هي تجنب قراءة المعنى قبل قراءة الألفاظ (الألفاظ كعناصر في شبكة من العلاقات وليس كمفردات مستقلة بمعناها): يجب التحرر من الفهم الذي تؤسسه المسبقات التراثية أو الرغبات الحاضرة.. يجـب وضع كل ذلك القوسين والانصراف إلى مهمة واحدة هي استخلاص معنى النص من ذات النص نفسه، أي من خلال العلاقات القائمة بين أجزائه.
والخطوة الثانية: هي التحليل التاريخي. ويتعلق الأمر أساسا بربط فكرة صاحب النص، الذي أعيد تنظيمه حين المعالجة البنيوية، بمجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية والسياسية والاجتماعية.
إن هذا الربط ضروري من ناحيتين: ضروري لفهم تاريخية الفكر المدروس وجينيالوجيته، وضروري لاختبار صحة النموذج (البنيوي) الذي قدمته المعالجة السابقة. والمقصود بالصحة هنا ليس الصدق المنطقي، فذلك ما يجب الحرص عليه في المعالجة البنيوية، بل المقصود الإمكان التاريخي: الإمكان الذي يجعلنا نتعرف على ما يمكن أن يقوله النص وما لا يمكن أن يقوله، وما كان يمكن أن يقوله ولكن سكت عنه.
أما الخطوة الثالثة فهي: الطرح الإيديولوجي، ونقصد الكشف عن الوظيفة الإيديولوجية، الاجتماعية والسياسية، التي أداها الفكر المعني، أو كان يطمح إلى أدائها داخل الحقل المعرفي العام الذي ينتمي إليه. إن الكشف عن المضمون الإيديولوجي للنص التراثي هو، في نظرنا، الوسيلة الوحيدة لجعله معاصرا لنفسه، لإعادة التاريخية إليه»2.
وجاء في كتابه “الخطاب العربي المعاصر”: “سيلاحظ القارئ أننا نوظف مفاهيم تنتمي إلى فلسفات أو منهجيات أو (قراءات) مختلفة متباينة، مفاهيم يمكن الرجـوع ببعضها إلى “كانط” أو “فرويد” أو “باشلار” أو “التوسير” أو “فوكو” بالإضافة إلى عدد من المقولات الماركسية التي أصبح الفكر المعاصر لا يتنفس بدونها»3.
إذا ما تم إحصاء عدد الكلمات الواردة في كتاباته التراثية والمتعلقة بالبنيوية (بنية ـ بنيات ـ بنى ـ بنيوي ـ إلخ) نجدها تربو على المآت، لما يدل على أن كاتبنا أكثر ما يكون متأثرا بالمنهج البنيوي. ولعل من المناسب تقديم صورة عن البنيوية قبل الوقوف على بعض الأخطاء التي وقع فيها الكاتب من جراء تطبيقه للمنهج البنيوي على التراث العربي الإسلامي.
أكد (روجيه باستيد) في ندوة أقيمت سنة 1960م في المدرسة التطبيقية للدراسـات العليا بباريس تحت عنوان «مصطلح البنية واستعمالاته في العلوم الاجتماعية”، بأن لفظ “بنية” استعير في البداية من الهندسة، وبقي حتى نهاية القرن السابع عشر الميلادي محتفظا بمعناه الاشتقاقي والذي يفيد حسب قاموس (ليتري): «الشكل أو الأسلوب الذي بنيت وفقه بناية معينة».
ثم استخدمه النحويون وعلماء التشريح. وفي القرن التاسع عشر الميلادي حلل (هربرت سبنسر) النظام الاجتماعي بلغة البنيات والوظائف. وأثار (راد كليف براون) قضية التشابه بين البنية العضوية والبنية الاجتماعية.
ومن ناحية أخرى تأثر (لويس موركان) في تحليله البنيوي لقبائل إيروكوا البدائية ببنيوية كل من (ماركس) و(إنجلز). ولما شرع (كلود ليفي ستراوس) في صياغته لفكره البنيوي، كان مستلهما أعمال كل هؤلاء بالإضافة إلى علم اللغة وعلم النفس.
ومن “البنى الأولية للقرابة” إلى “الفكر المتوحش” ومن “المدارات الحزينة” إلى “المطبوخ والنيئ” ومن “أصل آداب المائدة” إلى “من العسل إلى الرمـاد” حقق ليفي سترواس تحويل النموذج الألسني، منتقلا من نظرية في اللغة إلى نظرية في القرابة إلى نظرية في العقل إلى نظرية في الأسطورة منتهيا إلى نظرية عامة في المجتمعات.
بل إن كتابا آخرين وسعوا تطبيق هذا النموذج حيث شمل النقد الأدبي والاقتصاد والسياسة والتاريخ، فقد استعمل الأديب الفرنسي (رولان بارت) المنهج البنيوي في كتاباته الأدبية والنقدية، ومال (جاك لاكان) إلى نفس الاتجاه في علم النفس والتحليل النفسي، كما اكتسحت البنيوية المجال البيداغوجي ومجال الهندسة المعمارية، وعلم الاجتماع، والفلسفة والأنتروبولوجيا التي أثرت فيها تأثيرا عميقا.
ـــــــــــــــــ
1- د.محمد الجابري، التراث والحداثة ص:47ـ48.
2 ـ د.محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، ص:31ـ32.
3- د.محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص:12.