الحرية والمسؤولية. أية توافقات وأية مفارقات؟ الحلقة الثالثة الدكتور محمد وراضي

نحن هنا لن نناقش آراء بعض المتدخلين في موضوع الجنس، وفي موضوع حرية التدين، وفي موضوع حرية الإفطار جهرا في رمضان.
لن نناقشها من زاوية الدين وإنما من زاوية منطق العقول ومنطق التجارب المخبرية من جهة، ومن زاوية منطق التماسك المجتمعي والأسري من جهة ثانية.

أن يتهم المغاربة بكونهم يعيشون خارج تاريخهم المعاصر، تغليط يسيء مباشرة إلى الشعب بكامل فئاته وبكامل شرائحه! فالانغماس في العصرنة، وصف تم لهم تحقيقه حتى قبيل دخول الاستعمار رسميا إلى بلدنا سنة 1912م.
إنهم مارسوا التعامل الربوي، والحصول على جنسيات دول أجنبية، هذه التي كانت توفر لهم الحماية الضرورية لترويج المتوفر لديهم من رؤوس أموال! فضلا عن كونهم قطعوا أشواطا بينهم وبين الغربيين في التبادل التجاري. يصدرون ويستوردون. وكل اتصال بين أطراف متباينة الثقافات والقيم الحضارية، تلاقح، وتبادل تأثير وتأثر.
يكفي أن تتحدث جريدة مغربية تصدر بطنجة في عهد السلطان عبد الحفيظ، عن ضرورة وضع دستور للبلاد، كي ندرك إلى أي حد كان المغاربة تواقين إلى التخلص من النظام الاستبدادي! وأن ما كانوا يطالبون به من حرية وعدالة وكرامة وديمقراطية -كما نفهمها نحن الآن- لم يحصلوا عليه في حينه، ولا حصلوا عليه والاستعمار قائم! ولا حصلوا عليه وعهد الاستقلال مقطب الجبين على مدى 56 سنة!
فقد خذلهم النظام المغربي مرتين: قبل الاحتلال الفرنسي، وبعد وضع حد لهذا الاحتلال كنتيجة حتمية للمقاومة الشعبية الباسلة. كما خذلهم الاستعمار الذي فرض عليهم الحرمان من تطبيق الجوانب الإيجابية من الليبرالية..
لكنه (أي الاستعمار) سمح بتطبيق بعض الجوانب الأخرى من الليبرالية التي نعتبر أغلبها سلبيا، كالسماح بتعاطي الخمور والترويج لها، وممارسة العهارة والقمار!
فقد وجد التهامي الكلاوي فرصة متاحة للاستثمار في المواخير التي تعود ملكيتها إليه في أكثر من مدينة! بحيث إنه كان يحصل على مبلغ مالي مقابل بيع كل عاهرة لجسدها، دون أن يثنيه تظاهره بالصلاح عن توفير الأجساد الآدمية الطرية لطلاب الملذات! وهو الذي كان يزور كل صباح بمراكش شيخا تجانيا في زاويته بباب دكالة. إنه على وجه التحديد: محمد النظيفي السوسي. صاحب “الدرة الخريدة في شرح الياقوتة الفريدة”! حيث إنه كان يجلس أمامه لبعض الوقت، مستمعا لحديثه الديني الذي لا شك يتناقض مع التوجهات الاقتصادية الليبرالية المتفسخة لباشا مراكش الطاغية المتحالف مع الاستعمار!
يعني أن الليبرالية على عهد الاحتلال فتحت دور البغاء بكافة المدن المغربية، لتؤدي دورها في إشباع دافع الجنس المتاح إشباعه لكل راغب، بدون ما قيد وبدون ما شرط! ولم يحدث أي جديد في الموضوع بحصول المغرب على استقلاله! كل ما حصل هو إغلاق المواخير في الظاهر. في حين حلت بعض الحمامات ودور القوادين والقوادات محلها لأداء نفس دورها ما أمكن في السر!
فإذا بما يجري في السر مع مطلع الثمانينات، قد اكتسى صبغة العلن الذي لا تخطئه العين! خاصة مع ازدهار وفادة السواح القادمين بأعداد كبيرة! وكأنهم مولعون باللحوم المغربية النسائية! بحيث يوحي إلينا أكثر من تحقيق صحفي معزز بالصور وبالحوار مع بائعات الهوى، كيف أن المغرب كله مواخير مفتوحة في وجه المتصابين من طنجة إلى الكويرة!
ونحن هنا لن نناقش آراء بعض المتدخلين في موضوع الجنس، وفي موضوع حرية التدين، وفي موضوع حرية الإفطار جهرا في رمضان. لن نناقشها من زاوية الدين وإنما من زاوية منطق العقول ومنطق التجارب المخبرية من جهة، ومن زاوية منطق التماسك المجتمعي والأسري من جهة ثانية.
وهكذا نجد كيف أن خديجة الرويسي تطعن “في منظومة القيم والأخلاق والهوية” المغربية السائدة في المجتمع “حتى لو كانت مستمدة من الشريعة الإسلامية ذاتها. فصرحت بأنه: لا مجال للسعي إلى محاولة تنميط جميع أعضاء المجتمع في نموذج قيمي وحيد ونهائي، مهما كانت طبيعته أو مصدره” أي حتى وإن كان وحيا من عند الله!
والملفت هنا للنظر في كلامها هو الخلط والتناقض والالتباس! إذ لا وجود لأي مجتمع بشري خاضع لنموذج قيمي وحيد ونهائي! وإنما يخضع لنماذج قيمية يتفاوت الأخذ بها بين الأفراد والجماعات من منطقة إلى أخرى!
ثم إن التمييز بين النسبي وبين المطلق من القيم، لا يترك أي مجال للزعم بوجود نموذج وحيد ونهائي! وعندما نميز بين المطلق وبين النسبي من القيم، فنحن لا نقصد بالمطلق هنا ما يقصده خصوم المعارف المطلقة التي لا تتغير ولا تتبدل، وإنما نقصد كل القيم الموجودة بالفعل في أي مجتمع كان. ونقصد بالنسبي ممارسة البعض لهذه بكيفية، وممارسة البعض الآخر لها بكيفية مغايرة!
ولنوضح بمثال في غاية البساطة، وليكن هو الصبر كقيمة يقتضيها الانتظار لتحقيق الأهداف المرسومة. والصبر للتذكير (لا بالمفهوم الديني) قيمة موضوعية مطلقة تفرض علينا نفسها مكرهين مرغمين في إطار أنواع الحتميات التي تحدثنا سلفا عنها قبل الآن.
فخديجة الرياضي: رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، تعاملت مع الصبر لسنوات طوال مجبرة لا مختارة! قبل وبعد أن أصبحت رئيسة هذه الجمعية! فتحملها للسهر وللجلوس إلى المكتب طويلا لمراجعة دروسها لغاية أداء مختلف الامتحانات، في مختلف مراحل التحصيل والتلقي، ما هو إلا صبر مطلق مفروض عليها مثلها مثل جميع أفراد أي مجتمع! كسعي منها وراء تحقيق النجاح في ميدان بعينه.
فتحقيق النجاح يقتضي شروطا من ضمنها العلم (=المعرفة لا العلم الديني) والعمل الدؤوب. والصبر (= التحمل) والإخلاص (=الالتزام لا بالمعنى الديني). والاطلاع المستمر لإثراء المتحصل من المعلومات.
ولا تزال السيدة خاضعة لمزيد من الصبر حتى تتحول قناعاتها الفكرية كما تحلم بها في اليقظة إلى وقائع ثابتة على الأرض، لا هي ولا أختها الحميمة: خديجة الرويسي! إنهما ملزمتان بالصبر “الجميل” ما أمكن(!!!) ما دام الشعب المغربي لم يقدم على محاولة جماعية للإقلاع عن التشبث ببعض قيم الأجداد والآباء الموروثة حتى الآن!
أما الخلط والتناقض الثاني في كلام خديجة الرويسي فيمثله قولها: “لا مجال للسعي إلى محاولة تنميط جميع أعضاء المجتمع في نموذج قيمي وحيد ونهائي، مهما كانت طبيعته أو مصدره”!
يعني أن محاولة تنميط الجماهير في نماذج قيمية بعينها محاولة فاشلة!
لكن ما الذي تحاوله هي في نفس سياق موضوع خصامنا الآن؟
أو لم تحاول هي وشركاؤها ومساندوها في آرائها، تنميط الجماهير في نماذج بعينها؟ فلو توجهنا بعقولنا إلى قيم الصبر، والالتزام، والشجاعة، وأردنا تغييرها لأنها تجسيد للقيم الماضوية البالية. فما هي القيم التي نعوضها بها؟ أولا نعوضها بالتأفف والتذمر؟ وبالخيانة والغدر؟ وبالتهور أو الاندفاع؟
حتى مع افتراض أن خديجة الرويسي نجحت -ومعها أصدقاؤها في الدرب- في إقناع البعض بضرورة تمكين المثليين من حرية التزواج في العلن، وممارسة الجنس في العلن. فكم هي النسبة المئوية التي سوف تحصل عليها من المؤيدين لقناعتها الفكرية والأيديولوجية قبل أن يأتي عليها الذي أتى على لبد؟
وفي ذيل هذه الملاحظة أو في ذنبها ، نؤكد أن هدف خديجة الرويسي ورفاقها هو تنميط أعضاء المجتمع المغربي في نموذج قيمي ونهائي بعد عمر طويل! مما يعني إبعادهم عن التنميط في نماذج قديمة إلى تنميطهم في نماذج جديدة. ومتى حصل التنميط كما تسعى إليه المناضلة المحنكة، تصبح القيم التي تدافع عنها مرافقة للمجتمع عبر التاريخ إلى أن يظهر مناضلون مثلها ليقترحوا نماذج أخرى من القيم تناقض القيم التي تدعو إليها الآن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *