مرّ شهر ماي بعجره وبجره بأتراحه وأفراحه وتلا مروره كما كان سِباقه وسِياقه ضجة وضجيج، ويهمنا قبل اللحاق أن نقف مع هذا الشهر الذي يريد له البعض أن يبقى عالقا في ذاكرة المغاربة عند ملتقى تلك النقطة التي تؤرخ لمأساة وكارثة فِعْل أولئك الفتية أو بالونات الهاراكيري الياباني والذين فضلوا أن يدخلوا جبانة التاريخ من بوابة الضيق والضنك وما جنته براقش على قومها.
والحقيقة أن تاريخ 16 ماي شكل منعرجا خطيرا، ومزلقا وعرا من تاريخ أمتنا المغربية التي جعلت التساكن والتمازج والتعارف والتسامح مبدأ وشعارا لوسطية سيرها واعتدال صيرورتها، وقد لا يهمنا مع الحاجة إليه الاستدراك على تغول وتطرف تمثلات وسطيتنا واعتدالنا ذلك بقدر ما يهمنا أن نسجل أن الأمور كانت قبل هذا التاريخ المقيت والمنعرج المميت تسير في إطارها الإيجابي المنسوب إلى نصاب الحياة الطيبة التي عمادها “إطعام من جوع وأمن من خوف وإعلان شعائر دينية” وهو نصاب لا يمكن إلا أن نوطن النفس معه على سلك سبيل الشكر مع الإبقاء على باب الرجاء مشرها، بغية الاستزادة من خزائن ما له متعلق بالروح من عدل لا يمكن تحقيقه إلا بتحكيم شرع الله، ومن نقاوة دينية لا يمكن توفرها إلا بفتح عملية تدشين لنخل عقيدة المغاربة وفقههم وسلوكهم، على وفق الكتاب والسنة بضميمة فهم سلف الأمة.
وجدير بالإشارة إلى أن بغية الرجاء تلك قد عرفت قبل ذلك التاريخ والتأريخ المدخون هرولة سريعة في مسعى إيجاد أو بداية التأسيس لصحوة مباركة ميمونة، رفعت من عقيرة التدين والالتزام الصادق عند الكثير من المغاربة بدء من المظهر الذي سجل لقطيعة في صفوف النسوة المغربيات مع مظاهر السفور والتقليد الحائف، كما سجل لبداية خصومة جلية واضحة بين الشباب المغربي وظواهر الانحراف والسلوك المشين.
حيث عمت المساجد وضاقت أركانها بمريديها من الشبان والشابات بل واقتحمت الدعوة السليمة التي ضابطها الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن عقبة الكثير من المنابر التي ظلت عصية على الدعاة والوعاظ، وهو اقتحام تجاوز المظهر لينفذ إلى الوجدان ويمس عمق كثير من شرائح المجتمع المغربي المتين الديانة.
وبينما الأمر على هذا النحو والصوب الإيجابي الجاد وعلى حين غرة تسجل الساحة المغربية بتاريخ 16 ماي أحداثا أليمة، أبطالها فتية متهورون استبدلوا الحياة في سبيل الله بموت وتقتيل لا ندري حتى ساعة كتابة هذه السطور في سبيل من وماذا نفذت تلك الجرائم وذلك على سبيل المقصد المنسوب إلى نواياهم؟
وإلا فإن ما تلا هذه المأساة كفيل عبر قراءة وجيزة للأحداث اللاحقة والمقاربة الأمنية والقانونية والتشريعية المتلاحقة بأن تجيبنا ليس على المقصد هذه المرة، بل على المستفيد من هذه الملحمة المأساوية الأليمة التي اهتبل وقائعها المستفيدون من صناع الكذب الإعلامي ورواد العلمانية وأصحاب المزايدات السياسوية الضيقة.
ولسنا في حاجة إلى التفصيل في أمور تذوَّقها المجتمع برمته مع فارق الذوق من شريحة إلى أخرى، ومن حزب إلى آخر، ومن إيديولوجية إلى أخرى، إعمالا لواقع من الجلاد ومن الضحية؟ ومن الفاعل ومن المفعول به؟ ومن الرابح ومن الخاسر؟
ولعل قراءة سريعة مبتسرة في هذا الخصوص تسعفنا في مسألة خندقة الأشكال في قوالب الفاعل والمفعول به، حيث ومباشرة بعد هذه الأحداث المارقة ستعمل القوى العلمانية المستأصلة على تنزيل مشاريعها الفاشلة من ذي قبل، تنزيل مشفوع بقرارات مشمولة بالنفاذ المعجل.
وهكذا وبعد عشية وضحاها انقلبت هذه السخائم على قواعدها المطردة في مبادئ “التعددية”، و”الحق في الاختلاف”، و”قداسة الحرية الفردية”، فتم تمرير فصول الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية باسم تعديل آخر معاقل الملمح الإسلامي المتمثل ببنود الأحوال الشخصية، ثم تلا ذلك مناداة بعض قوى بدعة المجتمع المدني نهارا جهارا بواجب التسوية بين الذكر والأنثى في الإرث والإشهاد، بينما تم إلصاق المسؤولية المعنوية لما حدث بكل اتجاه مصلح كان ديدنه المطالبة بتحكيم الشريعة كما تم التحجير ووضع يد البأس الشديد على الحركات الإسلامية ذات التوجه الاجتماعي والخيري، وما أعقب ذلك من تجاوزات وتعسفات وصل مداها محاسبة الناس على النوايا وأضغاث الأحلام مما هو مرجوح التنفيذ بعيد المنال.
ويبقى الأهم من كل ما ذكر تمرير القانون 03.03 المتعلق بمكافحة الإرهاب، حيث تمت المصادقة عليه بأغلبية مطلقة مع تسجيل امتناع صوت واحد، وهوما لم يتأت ولم يكن ممكنا لولا ما حدث من تداعيات جاءت كمحصلة شبه طبيعية لذلك الارتجاج الغادر المارق الذي عرفه ذلك اليوم المشهود.
وللأمانة التاريخية، فلا يمكن أن نحمل هذا الحدث أكبر من طاقته الاستيعابية، ذلك أن هذا الحدث بخصوص تمرير قانون الإرهاب لم يكن ليشكل سوى أنزيما دوره تسهيل هضم وتسويغ هذا القانون، وكذا حمل الكثير من الظهور العصية على الانحناء بالشكل المنيب المخبت لرياح التغير الإقليمية، وإلا فالواقع الذي ليس له دافع يشهد أن المغرب قد انخرط قبل التصديق على هذا القانون الملغوم مع التوجه الذي تلا أحداث 11 سبتمبر، وهو انخراط ستتجلى صكوك طاعته بمبادرة دعوة المغرب لعقد الدورة الاستثنائية للمنتدى الأورو-متوسطي على جغرافيته، حيث تم اللقاء في 25-26 من شهر أكتوبر من سنة 2001 بمدينة أكادير، وجاءت الدعوة في إطار التعاطي بإيجابية مع سياسة أمريكا الاستقطابية في حربها ضد الإرهاب.
وجدير بالذكر التنصيص على ضغث القرارات التي تشرح بالاستشراف حجم التعاون الدولي الذي ألقي على كاهل المغرب، ومعه كل الدول الإسلامية في مجال محاربة الإرهاب، واعتقال مدبريه، وما يلزم من هذا الحمل الثقيل من تعاون وتنسيق استخبراتي رفيع المعنى مرصوص المبنى.
وعلى هذا النحو والرؤيا يمكن فهم السبق الذي أعطي لهذا القانون، وكذا السرعة الفائقة التي تم إنجازه فيها، على غير الإلف والعادة واستثناء على ما تعرفه ولادة القوانين واستهلالها ببلادنا، من سجالات ومدافعات ومرافعات ومراجعات بين مختلف الأطياف الفاعلة في هذا المجال.
ولا أدل على هذا وجود الكثير من القوانين ذات الأهمية القصوى والحاجة الماسة ومع ذلك لا زالت في الرفوف تشكو حال تقادمها وهوانها على أصحاب الاختصاص، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قانون الشغل، والقانون التفصيلي المنظم لحالة الإضراب، وما يمكن أن يترتب عليهما مما له علاقة باقتصاد البلاد ورزق العباد.
هذا وتجدر الإشارة أن من أكبر مساوئ تفعيل هذا القانون والتماهي مع الطرح الإقليمي في هذا الخصوص، أن عادت الكثير من القضايا المصيرية والتي نشأنا وتربينا وكبرنا وهي تسكن الوجدان جدا عن والد عن ولد إلى الصف الخلفي من اهتمامات الوطن، نذكر على سبيل الحصر قضية وحدتنا الترابية، إذ يلاحظ أنه ومنذ الانخراط السالف الذكر عرفت أقاليمنا الصحراوية العديد من الهزات والقلاقل والارتدادات التي تنفخ في بؤرة موقدها العديد من دول البعد والجوار ذات التوجه التوسعي.
أضف إلى هذا أن المقاربة الأمنية التي تعد تفعيلا لهذا القانون على الأرض ومع عدم إغفال شيء من نجاعتها مع التعريج على لفت الانتباه إلى ما جاءت تحمله من مساوئ وتجاوزات قد أثبت الواقع والخبر الذي ينقله الأثير بالصوت والصورة من خارج الحدود وداخلها فشلها الذريع والمريع، وهو فشل طبيعي بالنظر إلى أن هذه المقاربة وقانونها كانت ولازالت تحارب خلايا وذوات وكيانات لاتزال حبلى تتناسل هنا وهناك، ساعد ويساعد على تكثير سوادها سوء الفهم عن مراد الله ورسوله من جهة، ومن جهة ثانية غياب أو تغييب حركة فكرية متخصصة، ومقاربة دينية تصحيحية تقارع الفكر بالفكر، والمنهج بالمنهج، والخطأ بالصواب، وتنخل الدخيل بمنخل تركة الهدى: كتاب الله وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام على ضوء نقاوة فهم سلفنا الصالح، على الحصر والقصر، إذ أخطأ من أوكل هذا الأمر بقصد أو بغيره إلى أصحاب الذوق والحال والكشف نسأل الله العفو المعافاة من كل داء وبلاء ومن كل سفه وجنون.