مصادر ومآخذ مضامين الكتاب
من الطافح المنتصب في مضامين كلام المصنف أنه قد اتخذ الاستقراء للنصوص الشرعية والتأمل فيها -أحوالها ومعانيها- وفيما يعرض له فيه النظر من أمور متصلة بذلك وسيلة إلى استخراج ما كمن في هذه النصوص من معان، وأخذ ثمراتها وجناها، وإلى بناء الأحكام النظرية، ونقضها، ووزن آراء أهل العلم، وتقويمها، وبذلك كانت مضامين كلامه ثمرات دراسة شرعية روافدها علوم القرآن ومعاني الحديث وأحوال الأحكام وبنية الشريعة.
فكان هذا الاستقراء والتأمل عمد عمله في التوسل إلى درك تلك المطالب وتحصيلها، فلذا كان ديدانه سرح النظر مطلقا له العنان ماضيا في ذلك، في مواضع نظره، باحثا عن الحق والصواب في ذلك، وبذلك ينتهى به الأمر إلى إبراز ما يراه الرأي المنتقى، وربما أتى بفوائد علمية وضوابط منهجية لم يسبق إليها -على ما يبدوا لي-.
نعم، إنه يستقى من كتب من تقدمه من أهل العلم والنظر مختارا كتب من بعد زمانه عنه، معرضا عن كتب المتأخرين، وكان ذلك عن قصد منه، لأن من سماهم بالمتقدمين أعلم وأقعد بالعلم من المتأخرين، كما قال.
فكان آخذا من كتب هؤلاء من القواعد والضوابط العلمية ومعاني النصوص الشرعية وغير ذلك ما أسس عليه هذا الكتاب، وبناه عليه منسقة مضامينه، مرتبة مباحثه.
وتراكيب كلامه في الكتاب وما تضمنته من معارف ومعان تشهد وتدل على أنه استهدى بما سطره الإمام الجويني -رحمه الله تعالى- في كتابه “البرهان” في شأن المقاصد الشرعية وأحوالها، وفي التأويل.
وكذلك استقى وأخذ مما أودعه الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- في كتابه “إحياء علوم الدين” من الحديث عن أحوال القلوب والأعمال، والخصال المنجية، والخصال المهلكة والمزج في الأحكام بين اعتبار الظاهر والباطن في الإنسان، وفي عمله. وما يتصل بذلك ويتفرع عنه من أمور تربى على النظر السديد إلى الوجود وما فيه، وعلى الرشاد في السلوك.
كما أنه يخالل نظره ويمتزج به في مجاري النظر الفقهي العمل بالقواعد الفقهية والأصولية التي عليها المالكية، فكان يستشهد أحيانا بها وأحيانا أخرى يستدل لها، ويذكر مآخذها، كما فعل في شأن الاستحسان، وسد الذرائع، ومراعاة الخلاف، وغيرها، فهي لا تنفك حاضرة في مجرى نظره، قائمة بذهنه، كما يبدوا من تصرفاته النظرية، وتضاعيف كلامه ومضامينه، وتقريراته للمسائل الفقهية. وهذا يكاد يدل على أنه مالكي المشرب، وإن كان من خاض في العلوم على هذا الحال الذي هو عليه لا يرضى إلا بالاجتهاد.
ويظهر من كلامه في بحث الدلالة أنه تأثر بالإمام ابن حزم مستفيدا منه في شأن مقتضى الدلالة التبعية بوجه ما.
كما يظهر أنه انتفع بتحقيقات فقهية وغيرها لبعض فقهاء المالكية كالمازري والقرافي.
ولا يخفى أنه مخالف للمعتزلة فيما هم فيه على خلاف مع غيرهم من أهل المذاهب الكلامية الأخرى، فكان مقررا بنفس أشعري أن الأعمال البشرية من خلق الله -تعالى- وأن السبب غير مؤثر بذاته لا في الإيجاد، ولا في الإعلام، فالمسببات لا تدخل تحت طاقة العباد، ومن تم لم يتعلق بإيجادها التكليف.
وهذا قد فصل فيه الكلام في مجاري حديثه في السبب.
وأما ما ذهب فيه الأشاعرة إلى التأويل على خلاف الحنابلة، وموضوعه الصفات والأسماء فإنه فيه -فيما يبدو لي- على اضطراب، ففي شأن الجهة يوافق الأشاعرة، وفي شأن الاستدلال الذي قد يبني عليه موافقته لهم في المعتقد، إذ سكت عن رده، قال في كتاب الأدلة: “والثالث قوله -تعالى: “يخافون ربهم من فوقهم” على هذا المجرى في سائر الآيات “3/262.
وقال فيه أيضا: “وأما مسائل الخلاف وإن كثرت فليست من المتشابهات بالإطلاق ولا تكليف يتعلق بمعناها”3/70.
والله تعالى أعلم بالصواب.