الباب الثاني من أبواب حماية الدين: الباب العملي:
وهو نَحْوُ سلطانِ اليدِ؛ وهذا هو الذي عُذِر العلماء فيه.
فالعلماء يفتون بالحق ويبينونه بالعلم والحكمة، لأنهم أولى بالحرية والجَراءَةِ مِنْ رُوَيبِضاتِ الإعلامِ ومن صَحَافَةِ الكير، ويدَعون الإلزام للقضاة والتنفيذ للسلطان؛ فإن الإصلاح مبدؤه العلماء توجيهاً وانتقاداً، ومنتهاه الحكام توجيداً وإنفاذاً، ولا يقال لهم بئس ما تفعلون ما داموا يتناهون عن منكر فُعِلَ بينهم في تكاملٍ وتناغمٍ؛ فإنما المجتمع “سفينةُ استهامٍ”: بعضنا في الأعلى وبعضنا في الأسفل كما في حديث النعمان عند البخاري:
عن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا”.
فلا يبغِ بعضٌ على بعضٍ، ولا يخاطبون بتكلفه كما لا يخاطبون في الأحكام الوضعية بإيجادها؛ كسببية غروب الشمس لوجوب صلاة المغرب..
مع أنهم يَتَلومون أذانها ويراقبون شفقها، وإن كان من نازلة تخرج الكون عن معتاد أوضاعه كما في زمن الدجال!!! فإنهم يقدرون لكل يوم قدره كما أرشد رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا يتركون الصلاة ولا يقتصرون على ظاهر الكواكب:
عن النواس بن سمعان، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: «ما شأنكم؟» قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال غداة، فخفضت فيه ورفعت، حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: «غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط، عينه طافئة، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم، فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة بين الشأم والعراق، فعاث يمينا وعاث شمالا، يا عباد الله فاثبتوا» قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال: «أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم» قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: «لا، اقدروا له قدره» .. الحديث؛ رواه مسلم في صحيحه.
وهنا تكمن دقةُ الشريعةِ وشرفُ العلمِ حلاوةً وصعوبة، {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: 24].
إذا فالإيمان الأقوى مطلوب شرعاً ويتلوه القوي؛ وهما الأحب والأَخْيَرُ والأقرب عند الله تعالى؛ كما في أحاديث منها:
“المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف”، و”الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم”، و”لمن ابتلي فصبر فواها واها” ..
إن انتهاك محارم الدين كان يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم جهور الصوت محمر الوجه منتفخ الأوداج كأنه منذر جيش يقول: “صبحكم ومساكم”، أو هو “النذير العريان” كما تواتر في عِلْمِ شمائله المباركة الشريفة صلوات ربي عليه.
فإذا عَرَضَت عوارضُ الدنيوية وحظوظ النفس كان زاهدا ممتلكاً نفسه عن الغضب “فليسَ الشديدُ بالصُّرَعَةِ”، فتأمل رحمك الله هذا التوازن العظيم وكنْ من المتأسين.
والعجب ممن يتحلى بهذه الخَصْلَةِ في إنكار آحاد البدع العملية أو ما شابهها من منكرات الخصوص -وذلك حق- -بَلْ وفي السَّفَاسِفِ أحياناً مِنْ قِيلَ وقَال-!!!؛ ثم هو يومَ تنتهك العظائم لا ينبس ببنت شفة؛ مُتحايلاً في قواعدِ الضررِ وفقهِ المتغلِّبِ والضروراتِ، ناشراً ثقافة الانهزام قبل نُذُرِ الهَزيمَةِ، وتجده إماما في مَنْدُوحَةِ الرخصِ والتيسيرِ الذي كان يسميه تمييعاً، وهذا يذكرني بقصة الإمام ابن عبد الوهاب النجدي رحمه الله مع طلابه في استقلال الدعاء عند شجرة واستعظام من أتى موليته ..، والقصة مشهورة.
فما بالك والحق مهان والأدب مصان، ومع ذلك ارتعدت فرائصهم لأدب العباد -زعموا- ولم تتمعر الوجوه كما كان المصطفى إذا انتُهِكَتْ محارمُ الله سبحانه..
إنها آثارُ الطلبِ الأعورِ والتفقهِ الأعرجِ، على النفوس التي لم تقرأ من الأصول إلا الاحتياط، وسد الذرائع دون فَتْحِها، ولا من المقاصد إلا درء المفاسد دون جَلْبِ ضِدِّها، ولا من النحو إلا باب الضمائر، ولا من المصطلح إلا الضعيف الذي لا ينجبر، ولا من التجويد إلا النون الساكنة وصفة الهمس لقول المُرَتِّلين: “فَحَثَّهُ شَخْصٌ سَكَتْ”، ولا من الصرف إلا الفعل المعتل، ولا من العروض إلا الزحافات، ولا من الفقه إلا صلاة الخوف وأهل الأعذار ولربما كتاب الجنائز، ولا من الحديث إلا: “وإن ضرب ظهرك”، ولا من التفسير إلا: ما استطعتم و”التهلكة”، ولا من القراءات إلا ترقيق ورش وإمالة علي، ولا من السلوك إلا الخلوة، ولا من السيرة إلا عهد مكة، ولا من الصحابة إلا ابن حصين، ولا من الأعلام إلا أُوَيْساً رضي الله عنهم، ولا من المعاصرين إلا هيئةً، ولا من الأدب إلا من صمت نجا، ولا من الطب إلا الحِمْيَةَ الحِميَةَ ..
ولن أكمل نحواً من مائة علمٍ؛ لأنهم لم يشموا رائحتها وبعضهم لا يعرف أسماءها..
أفلا نوسع مداركنا كما علمنا أسلافنا وعلماؤنا؟
فالباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه كما قال ابن المديني، والفقه هو الرخصة تأتيك من فقيه كما قال الثوري، والفقه العلم بمواقع الرخص، وهَتَفَ العِلْمُ بالعَمَل ..
فالله واسع عليم وسع ربي كل شيء علما ووسع كرسيه السموات والأرض؛ أفلا نتخلق بهذه الصفة الربانية ونتعلق بهذه السعة الرحمانية؟ فإن رحمته وسعت كل شيء، وقد كتبها {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]
ولله در الإبراهيمي يوصي شيوخَ العلم مُجَلِّياً حَقِيقَتَهُ قائلاً: “امزجوا لهم العلمَ بالحياةِ والحياةَ بالعلم؛ يأتِ التركيبُ بِعَجِيبَةٍ، ولا تَعْمُروا أوقاتهم كلها بالقواعد؛ فإن العكوفَ على القواعد هو الذي صَيَّرَ علماءنا مثل “القواعد” وإنما القواعد أساس؛ وإذا أُنْفِقَتِ الأَعمارُ في القواعد فمتى يَتِمُّ البناء ؟؟؟”اهـ
والله الموفق ..
يتبع بإذن الله تعالى