من المعلوم أنه لا يخلوا إنسان من العيب والنقص مهما كان فضله وبلغت منزلته, ولكن من الإجحاف ما نراه من زهد بعض الناس في آخرين لوقوفهم على ما أخطئوا فيه وزلوا مع قلة ذلك!
ورحم الله سعيد بن المسيب حيث قال: “فليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب ولا بد, ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه.. من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله” الكفاية 79.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه” القواعد لابن رجب 3, انظر تعليق الشيخ ابن عثيمين رحمه الله على هذا الكلام.
وهذا الذي ذكره الحافظ ابن رجب رحمه الله يمثل منهجا صحيحا للسلف الصالح وأهل السنة في الحكم على الأشخاص.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “من قواعد الشرع والحكمة أيضا أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره, فإن المعصية خبث, والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث, بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى خبث يقع فيه، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)…”مفتاح دار السعادة 1/529.
وتقرير ذلك مبناه على اعتبار الغالب على المرء, على حد قول أهل العلم: “الشيء يحكم له أو عليه بما غلب عليه”.
وفي ذلك قال الشافعي رحمه الله: “فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة قَبِلتُ شهادته وروايته, وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها” إرشاد الفحول 98.
وقال أبو الحسن الماوردي رحمه الله: “وبذلك جرت عادة الخلق أنهم يعَدِّلون العادل بالغالب من أفعاله, وربما أساء, ويفسقون الفاسق بالغالب من أفعاله, وربما أحسن” درر السلوك 65.
وعليه فإن العبرة في تقويم الأشخاص كثرة المحاسن والفضائل.
يقول الحافظ الذهبي رحمه الله: “ونحب السنة وأهلها, ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة, ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ وإنما العبرة بكثرة المحاسن” السير 20/46.
وها هو الحافظ الحكمي رحمه الله في تغليب خيرية الصحابة رضي الله عنهم على ما قد يرد في خصوص بعضهم من أخبار الفتن يثبت مبدأ تغليب المحاسن واعتبار كثرة الفضائل حيث قال: “ولهم من الفضائل والصالحات والسوابق ما يُذهب سيئ ما وقع منهم إن وقع, وهل يغير يسير النجاسة البحر إذا وقعت فيه, رضي الله عنه وأرضاهم” أعلام السنة المنثورة 185.
مع التنبيه -هنا- أن اعتبار غلبة المحاسن صحيح مع اعتبار سلامة المنهج, ووضوح التصور, وصفاء الاعتقاد, وصحة الأصول, بل نقول مستفهمين استفهاما تقريريا: وهل يتصور صحة ذلك إلا بذلك؟!
وقد وضح ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله في معرض بيانه لزلة وقع فيها الشيخ الهروي رحمه الله صاحب كتاب المنازل حيث قال في حقه: “ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه, وإساءة الظن به, فمحلُّه من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل, وكل أحد فمأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه, والكامل من عد خطؤه, ولا سيما في مثل هذا المجال الضنك, والمعترك الصعب الذي زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام” المدارج 1/219.
إذن فالمرء يمدح بكثرة ما له من الفضائل والمحاسن, ومن الاعتساف والخروج عن الفطرة السوية والإنصاف: أن ندفن كثرة خير المرء لقلة زلـله وعيبه, فإنه مما هو “معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أن من له ألوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها” مفتاح دار السعادة 1/531.
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: “إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ, وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تذكر المحاسن” السير 8/378.