1. ضعف الثقافة الشرعية: التي لا تزال السمة البارزة على كثير من المفكرين والمثقفين الذين تناولوا هذه القضايا بعيداً عن العلم الشرعي، ورصيد مهين من التأصيل العلمي، ومكسب ضحل من الوعي الديني الذي يحفظ مسار المفكر ولا يشوش رؤيته، ولا يعيق تقدمه، ويجعله في خط مستقيم من المحافظة على الأصول والثوابت، واحترام المبادئ والنصوص والفضائل.
2. قلة البصيرة بالواقع: فليس غريباً جهل كثيرين بمنشأ قضايا الساحة وصناعها ودوافع أصحابها وانتماءاتهم الدينية والعرقية، وموقفهم من الإسلام وأهله، وما تحمله أقلام الفكر والصحافة من تصعيد بالغ وإثارة عاتية، وتقليد سمج.
3. الجهل بمناهج التفكير السليم: هل يملك المفكرون والدعاة إلى الآن المنهج السليم في التفكير؟! هل الصورة واضحة في التعامل والحوار والتأمل والنقض على الآخرين؟! الجواب أننا لا نزال نفتقر إلى أصول التفكير الصحيحة، ودلائل العقلية المنضبطة، ولا يشك عاقل بتقهقر هذا الجانب في حياة المسلمين المعاصرة وأن قضية (التفكير الصحيح) هي إشكالية كبرى، تصطلي الأمة وبال غيابها وإهدارها، والله المستعان.
4. السطحية في التفكير: ونعني بها الاعتماد على ظواهر الأشياء، والالتفات لأشكالها دون التعمق والنفاذ إلى ذواتها واستيعاب غاياتها وأبعادها وجذورها، وذا ناتج عن قلة الزاد المعرفي، والانغلاق وعدم التفكير، والخضوع لمؤثرات الواقع.
5. ضيق الأفق: وهو فرع السطحية والجمود، بحيث لا يتجاوز الإنسان مكانه ودائرته في التفكير ولا يستطيع إدراك ما بَعُد كشعوره بما قَرُب، وقد يعسر عليه اجتياز الآفاق وتقدير الآثار، وفهم العواقب والنتائج والمستلزمات.
6. التقليد: إذ إن من طبيعة التفكير الجدة والتغيير والزيادة، وقد يجبن كثيرون عن إبراز ما عندهم من إفادات وإشارات وتحليلات، خشية الخلاف أو السخرية والشذوذ، مع أن المسألة أسهل مما يتوقع عند الدعاة الكملة، لذا يضطر مفكرون ومبدعون إلى الانخناس والرضا بالتقليد والاستسلام لجميع أنماطه وأشكاله، فيصبح يُصنع بالمؤثرات الثقافية والبيئية التي من دأبها تعميق الضحالة والركاكة، وتعطيل الفكر وأدواته، مما يصعب على المرء مجاوزة المحيط التقليدي الذي هو فيه، بل يخشى التسفيه والتكدير والتحطيم، والله المستعان.
ولعل من أشد صور التغيير في الحياة هو الدور الذي يبذلـه المفكر لتصحيح المفاهيم، وحل الإشكالات وإلغاء الأخطاء التي قد تكون محاطة بسياج من القداسة عريض، يأبى تحليلها ونقدها فضلاً عن تغييرها وإزالتها.
وهذا النوع من جلاد الداعية وبلائه، أن يصلح ما فسد فيه الناس، فيطهر الحياة من المعتقدات الفاسدة والعادات السقيمة والطرائق الذميمة، وهذا يكلفه المزيد من الإصلاح والإنكار والتغيير، شريطة التمكن الشرعي والظفر بالنصوص والشواهد وامتلاك فنون الحوار والجدل، والتحلي بركائز الآداب والأخلاق، والصبر على الجهلة ومجانبة السفهاء، والله الموفق.
7. التعصب: وهو اللب الناشئ عن تقمص التقليد والولوج في روحه ومادته، إذ إن جبلة التقليد والمحاكاة كافية في صناعة (جيل متعصب) يعمى فهمه عن إدراك الحقائق، وتقدير الأكفاء، وتثمين الإنصاف، وإنزال الناس منازلهم، فيأبى بتعصبه نصاعة النص، وبراعة التحقيق، وسطوع المنهج، وفي الصعيد الإسلامي يبرز تعصبين:
الأول: قبلي، يمجد العراقة والأصالة، ويصون تراث الآباء والأجداد، للضمانة الأمنية التي تقوم بها القبيلة من رعاية وحفظ ومناصرة ومعاونة في الغالب.
الثاني: مذهبي، ينتصر لفكرة أو شخص أو طائفة، دون اتساع أو استدلال أو حوار وغير خاف شيوع هذا النوع في المسائل الفقهية والدعوية، وما أورثه من مفاسد وخيمة على حساب تقليل النصوص وتعميق المثالب، وتشويش النظرة الصحيحة.
ومن المؤسف أن (التربية الفقهية) لا تزال في عالمنا الإسلامي ضيقة الأفق، رتيبة المنهج مع حرصها على التأهيل العلمي، لا تسعى في نشر أدب الطلب، وفقه الخلاف، وتعويد الطلبة على التجرد والنزاهة واحترام جلالة النص والبحث عن الحق، وعدم الاغترار والتقليد للآخرين، مما يعني (بناء عقلية فقهية) غير معتدلة تضييق ذرعاً بالخلاف، ولا تطيق الانتقاد، ولا تقبل التغيير والانتقال.
ولم يعد كالمستغرب في حياتنا، تدريس أستاذ جامعي مادة الفقه حسب مذهبه الذي نشأ عليه من صغره، بل يقول بعضهم في عالم بلغ رتبة الاجتهاد (لقد أفسد متن المؤلف بكثرة تعليقاته وترجيحاته النائية عن المذهب) وما هذا النموذج إلا نوع من فشو ظاهرة التعصب التي لم تزل دياجره تأبى الأفول والانسلاخ.
وعلى الجانب الفقهي أيضاً، أن ما من مذهب فقهي إلا ونبغ فيه أئمة محققون صنفوا فيه ودافعوا عنه ولهم قبول كابن الهمام عند الحنفية، والنووي في الشافعية، وابن عبد البر في المالكية، وابن تيمية في الحنابلة وليس هذا هو المشكلة.
لكن المشكلة تأثر التلامذة بهؤلاء، وتعلقهم بكتبهم وأقاويلهم واختياراتهم، فهي على التربية السائدة لا تقبل الحوار والمناقشة والاعتراض [فقولهم صواب لا يحتمل الخطأ، وقول غيرهم خطأ لا يحتمل الصواب]. انظر: أزمة الفهم، أسبابها، مظاهرها، منافذ الخروج منها، لحمزة بن فايع الفتحي.