المقدمة التاسعة: تقصيره أو قصوره في البحث العلمي أو تدليسه
كثيرا ما يسارع صديقنا في رمي العلماء الأجلاء قديما وحديثا بالتقصير في البحث، رغم أنهم كانوا يستفرغون الوسع والطاقة في معرفة الحق، وقد تقرر أن من استفرغ وسعه للوصول إلى حكم شرعي مع استجماعه لشروط الاجتهاد، ثم جانب الحق وخالف الصواب لا ينسب إلى التقصير عند الأصوليين، بل يعتبر اجتهاده اجتهادا كاملا مأجورا عليه، كما دلت على ذلك نصوص السنة النبوية الصحيحة.
والذي لا يستحضره البعض، أن العلماء قديما كانوا يعتمدون غالبا على حافظتهم القوية، ويخالطون الكتب مباشرة، ويديمون المطالعة والمدارسة، ويأخذون العلم من معينه مشافهة، لا عن طريق المكتبة الشاملة والعلامة “كوكل” كما يفعل بعض الباحثين المعاصرين المتبجحين.
ومع ذلك، ورغم استعمال علامة عصره ونبيه زمانه لكل هذه الوسائل التقنية الحديثة، نجده يجافي الصواب في كثير من الأحيان، ويكون الحق مع المخالف كما سأبين من خلال ردودي العاتية فيما سيتقبل من الأيام بإذن الله.
وبما أن المقام لا يتسع لكثرة الأمثلة، فسأكتفي بنموذج واحد حاول من خلاله أن ينطح جبلا فلم يضره وأَوْهى قرنه الوعِل، وذلك حينما نسب التقصير للشيخ الألباني رحمه الله في حكمه على ضعف زيادة محاولة انتحار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال في معرض ذكره لمن ضعف تلكم الزيادة ـوهو الحق-: (العلامة الألباني في “دفاع عن الحديث النبوي1/40، والضعيفة3/160 و10/ 450 وحكم عليها بالنكارة والبطلان، وضعفها بالانقطاع ومناقضة أخلاق النبوة.
لكن الشيخ زعم تفرد معمر بن راشد بها، وهو مقصر في البحث، ثم إنه نسي حكمه عليها بالبطلان، فأوردها في “صحيح السيرة ص88” من غير تنبيه ولا تحذير) اهـ.
قلت: بل إن صنيعك هذا لا يخلوا إما من تقصير أو تدليس، حيث نسجل لك هنا ثلاثة أخطاء وقعت فيها، أحدها يسير يغتفر لكنه مستقبح مستهجن، والآخران يضعانك في مأزق لا مخرج لك منه ولا مفر.
فأما الأول: ذكرت بأن تضعيف الشيخ للحديث في كتابه “دفاع عن الحديث النبوي والسيرة” وهذا حق لا ريب فيه، لكنك حينما أشرت إلى الصفحة وضعت أمامها الجزء أيضا 1/40 أي الجزء الأول الصفحة 40، والكتاب أصلا من جزء واحد لا أكثر. فتنبه رحمك الله في المرة القادمة وانظر في بطاقة الكتاب من المكتبة الشاملة قبل أن تحيل إليه كي لا تنسب للتقصير.
وأما الثاني: فقولك: (لكن الشيخ زعم تفرد معمر بن راشد بها، وهو مقصر في البحث).
قلت: بل أنت المقصر، وأما الشيخ رحمه الله فبريء من ذلك، وهذا نص كلامه الذي تكاسلت عن قراءته، أو لم تطلع عليه أصلا وإنما نقلته مبتورا عن غيرك: (ونستنتج مما سبق أن لهذه الزيادة علتين:
الأولى: تفرد معمر بها دون يونس وعقيل فهي شاذة.
الأخرى: أنها مرسلة معضلة فإن القائل: (فيما بلغنا) إنما هو الزهري…) .
فتأمل حفظك الله ولا تستعجل فتندم.
وأما الثالث: فقولك: (ثم إنه نسي حكمه عليها بالبطلان، فأوردها في “صحيح السيرة ص88” من غير تنبيه ولا تحذير).
وليس الأمر كما زعمت، بل إن الشيخ كعادته يحيل القارئ أحيانا إلى كتاب يكون قد بسط فيه القول في الحديث حتى لا يكرر المباحث نفسها، وهذا ما فعله هنا حيث قال: “رواه البخاري رحمه الله في كتابه في مواضع منه وتكلمنا عليه مطولا في أول (شرح البخاري) في (كتاب بدء الوحي) إسنادا ومتنا ولله الحمد والمنة. وأخرجه مسلم في (صحيحه) وانتهى سياقه إلى قول ورقة: (أنصرك نصرا مؤزرا) ) .
فمن المقصر أو القاصر أو المدلس هداني وهداك الله وألهمنا الرشد والصواب، فتريث ولا تتسرع في إصدار الأحكام على العلماء قديما وحديثا، وأكمل قراءة الجمل إلى نهايتها ولا تتعجل، لكي لا تضع نفسك في مواقف محرجة ليس لك منها مهرب، وتحصر نفسك في زوايا ضيقة ليس لك منها مخرج.
وهذا الذي ذكرت نموذج واحد فقط من بين أمثلة أخرى تسرع فيها صاحبنا في تخطئة أسود علم الحديث، فإذا بالصواب يكون معهم، لكن سوء فهمه لكلام المتقدمين وطرائقهم في التأليف يحمله على مثل هذه المجازفات المميتة.
خاتمة الجزء الأول:
وهنا ينتهي الجزء الأول من سلسلتي هاته، والذي اشتمل على شيء من معالم تنير لنا الطريق حول شخصية ومنهجية خريج دار الحديث الحسنية المذكور، وسيعقبه بإذن الله الجزء الثاني الذي سيحتوي بدوره على مجموعة من المقدمات الضرورية التي تجيب على الكثير من التساؤلات المهمة، من بينها: ما حقيقة مذهب ابن الأزرق من خلال صريح كلامه؟
وهل يراعي في مقالاته أدب الحوار وضوابطه؟
وما صدق دعوى الكاتب بتمذهب البخاري ومسلم وتقليدهما لغيرهما؟
وما منهجيته في تفسير القرآن الكريم والتعامل معه؟
وما رصيد الباحث في علم الحديث وهو الذي أكثر من إخراج الطرق والروايات؟
وما قصة تعمد البخاري التستر في رواية الحديث؟
كونوا معنا في باقي أجزاء هذه السلسلة لنتابع معا قصة سقوط إمبراطوريته التي شيدها من العجين…
وإلى ذلك الحين ها هو صاحب المقال يحييكم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.