من مقتضيات العقيدة الصحيحة إحساس صاحبها، المعتقد بأصولها بقيمة انتسابه لهذه الأمة الموصولة بالله، وشعوره الصادق بأن هذا الوصل هو خصيصة مطردة الوجود، ومرصوصة البنيان، وباقية بقاء السماوات والأرض، إذ روافد هذا الوصل محفوظة بحفظ الكتاب والسنة، لا ينضب معينها ولا يذهب خيرها الذي ينفع الناس مذهب الجفاء…
فقد تعيش الأمة فترة ضعف ووهن، وقد تعترض سيل سيرها النكسات تلو النكسات، ولكن هذا الانقطاع العارض إنّما هو باق إلى حين، ثم تستعيد الأمة عافيتها لترسل بساط التمكين ثانية تحت أقدام أجيالها، ورعيل أبنائها البررة الأخيار.
ولا شك أن الرجوع إلى سيرة سيد المرسلين ونبي هذه الأمة الصادق الأمين، هو ورافد من تلك الروافد المشار إليها آنفا، بل هو عود ورجوع لا انفكاك للأمة عن محمدة وضرورة استحضار وتحيين المقصود منه، من إحياء ونفخ روح الاستنفاع والاستهداء بملامح نوره الخالد والاعتبار بمغلوبية خصمه وعدوه البائد، سيما إبان الفترات العصيبة من تاريخ الأمة الوسط، استلهاما للدروس والعبر والعظات، وحرصا على بث الأمل وبعث مفقود روحه من رمس السلو والنسيان، ومدافعة لعنصر اليأس ومخبوء القنوط الذي ينخر ذلك الجسد المتراص، فالمسلم قد يفقد كل أسباب العطاء، وكل أسباب القوة، وكل أسباب التوازن الحضاري، متى ما انصرف إلى قلبه وفؤاده هذا الخُلق القاتل الرديء، ومتى ما أعمل فيه وحرك في دواخله سكون خيبة الأمل وفقدان الثقة والإيّاس من روح الله.
وهو رجوع تبرر منطق عوده حقيقة أن سيرة سيد الخلق تظل زاخرة بكل مطلوب ومقصود قول أو فعل أو حركة أو سكون أو فعل أو ترك أو كف… يدخل في دائرة الحاجة الماسة إلى علاج موقف شائك، أو إدارة أزمة، أو ترشيد جهد، أو رد عدوان ودفع صائل، أو نسف شبهة ومدافعة شهوة…
وما أحوج الأمة اليوم والأمس قبله أفرادا وجماعات ومؤسسات، إلى الرجوع إلى هذا الميراث النبوي النفيس، وقد تداعى اليهود والنصارى والمجوس على قصعتها على ضعف منها، ووهن أصاب أبناءها في مقتل، بل في ظل ترادف تهديدات وتوالي توعدات، بل في زمن التفت فيه الجبهات المعادية التفاف الساق بالساق، وتجرد فيه الأعداء من كل التزام قانوني أو أخلاقي أو إنساني قد يراعى في حفظ حق من حقوق الحيوان، ولكنه للأسف يغيب ويُغَيَّب متى كان المستهدف هو جنس المسلم ونوعه في مشارق الأرض ومغاربها، بل تحشر سبابة “فيتو” واعتراض الأقوياء تحت الموائد أو في الجيوب ليمرر القتل والنهب والاغتصاب باسم حماية الحقوق المدنية للشعوب المتفوقة، وباسم حفظ حياة النفوس المنفوسة من تهديد تبديل الفطرة أو إظهار الفساد في الأرض.
وتلك ولا شك سيرة المترفين من فراعنة الأرض قديما وحديثا فهذا فرعون همّ بقتل نبي الله وكليمه موسى مخافة تبديل ظلم الاستعباد الذي سمّاه فرعون دينا، ومخافة إظهار الفساد في الأرض مصداقا لقوله تعالى تخبيرا عن هذه الصفاقة: “وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد”.
فما أشبه فرعون الأمس بفرعون اليوم، الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية السيد الأبيض الفاقع البياض “دونالد ترامب”، بل ما أشبه مستشرف وعيده وحقده الصهيوصليبي على دين الإسلام وأمة المسلمين، بذلك التحالف والتجمع الوثني الكبير، الذي أسس أو سهر على تأسيس عراه نخبة من زعماء اليهود الحاقدين، ومن انصاع لنفثهم من القبائل العربية من مشركي وكفار قريش وغطفان وفزارة ومُرة وأشجع، يوم تحرك هذا الخليط النكد يبغي القضاء على دولة المدينة وقد أجمع أهله أمرهم للقضاء على الإسلام والمسلمين.
وقد لا يبدو مهما هنا الاسترسال مع تفاصيل ذلك الغزو القديم فقد باءت محاولته بالفشل الذريع، وذهب زبده جفاء، وذلك ولا شك حكم الله المقرر متى ما التقى الحق والباطل والشك واليقين مصداقا لقوله جل جلاله: “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”، ولكن للقصة كما يقال ذيل ومغزى مراد…
ففي أثناء حفر الخندق شكا الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صخرة لم يستطيعوا كسرها، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ الفأس وقال: بسم الله فضرب ضربة كسر منها ثلث الحجر وقال الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال بسم الله وضرب ثانية فكسر ثلث الحجر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال بسم الله وضرب ضربة كسرت باقي الحجر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا “مسند الإمام أحمد”.
ومهم بعد هذا السوق أن نعلم أن هذه البشارات التي أخبر بها الصادق المصدوق في زمن الضيق والعسر والقَدَرَة قد تحققت بعده على يد المسلمين في عصور الخلافة الراشدة، بل اتسعت الفتوحات الإسلامية فشملت أصقاعا كبيرة من الأرض طبقا للوعد النبوي الصادق، وبذلك صار مآل الحكم والشأن فيها إلى المركز الإسلامي، حيث خليفة المسلمين في المدينة النبوية يرفل في ثوب تغزوه التراقيع، وتستر جسده هالة من الوقار والمهابة والسمعة الطيبة التي بني على أصولها العدل وتجسدت الحضارة في أسمى معانيها، وأبهى تجلياتها…
والأهم من هذا الانتباه إلى مميّزات الفترة والحالة التي صدر في مناخها هذا الاستشراف النبوي، حيث صدرت هذه البشارات والنبي يربط الحجرين على بطنه من الجوع ومعه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقد قال جابر رضي الله عنه واصفا أيام الخندق: “ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا”، كما وصف حال القائد عليه الصلاة والسلام قائلا: “لما حفر الخندق رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خَمَصًا شديدا”.
لقد صدرت هذه البشارات النبوية في وقت كان فيه المسلمون محاصرين في المدينة يواجهون مشاق الخوف والجوع والبرد الشديد، بل أوشكت المدينة أن تكون عشبا مباحا ومشاعا في وجه هذا الخليط النكد من الأعراب واليهود، وقد بلغت القلوب الحناجر واستصرخ الكل بالرحمة المهداة يستلهمون منه دعاء يستر عوراتهم ويؤمن روعاتهم…
وللمرء أن يتخيل هذا المشهد، ويكافح من أجل استحضار واستجلاء تفاصيل أحداثه، وله بعد تذوق تفاصيل هذا الاستحضار والاستجلاء إن حصل، أن يفتح باب التسليم الذي يستطيع من خلاله أن يسد ثلمة الفضول المريض، وما يصاحبه وصاحبه من هجوم خواطر وترادف خرص ظنون تستكبر في جحود حصول هذه البشائر النبوية الصادقة التي عاش فصولها الصحابة في غير هدر ولا ذرة ريب يشكك في مستشرف انتصاراتها.
ولا جرم أنه وفي ظل ذلك المناخ المغمور في الضيق والضعف والجوع والخوف، والذي عاشه الصحابة زمن الخندق، لابد أن يلوح في أفق الاستكبار والصدود النفسي ذميمة الاستدراك الهادر لهذه النبوءة، إعمالا لقواعد المعهود من سلوك طرفي النقيض، وذلك أن الذين آمنوا فزادتهم وتزيدهم إيمانا وأصبحوا ويصبحون بها مستبشرين، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم وتزيدهم رجسا إلى رجسهم وأمسوا ويمسون بها حائرين…
ولا شك أن هذا الرجوع إلى هذه اللحظات العصيبة من تاريخ الأمة، وفي ظل ما تعيشه الأمة اليوم من أحداث تحاكي في مجملها ما سلف، هو رجوع من شأنه أن يعطي الانطباع الوافي الجرعة على أن الدائرة للإسلام، وأن يرسخ في نفوس هذا الرعيل حقيقة أن الله متم نوره، وناصر أولياءه، وحافظ هذه الأمة حفظه لكتابه وسنة نبيّه عليه الصلاة والسلام، وأنها عقيدة لابد أن تركز في دواخلنا المهزومة، إلى أن يطرد خُلق اليأس الرديء، وأن تُصَادر من النفوس أحاسيس المغلوبية، وأن تُجثث مشاعر الإخفاق ومستحكمات الذل والهوان على الناس…
وكل هذا بفضل الله كفيل بحمل هذه الأجيال على عيش الحياة الطيبة الكريمة، غير عابئة ولا ملتفتة إلى همز ونفخ ونفث العدو الحاقد المتوعد المهدد في صخب مسافر إلينا عبر الأثير بالصوت والصورة والرائحة، توعد وتهديد ووعيد من جنس ما يتردد اليوم بتكرار على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.