كثيرة هي الأسئلة التي يجب أن تفرض نفسها، لكي تكون في الواجهة، تشغل إجاباتها، أو محاولات الإجابة عليها حيّزا مهما من مجالات تفكير وهموم الإنسان العربي المسلم، وهي أسئلة ذات طبيعة بحثية ونفس استدراكي تمردي، إذ موضوع ودائرة طرحها له منطلقات أصول، ومحطات وصول، أصول لها لوازم، ووصول يفتح باب الاستفسار على مصرعيه في وجه الأجيال التي أتعبها وأحزنها الوضع المتردي للأمة، فطفقت تفكر مليا في الأسباب الكامنة وراء هذه النكسة من تاريخ أمتها وعنوان انتسابها.
ومهم قبل الكلام عن طبيعة هذه الأسئلة والتماهي مع توضيح مجالات تصريفها، وجزئيات استفساراتها، الإشارة ابتداء إلى أن هذه الأسئلة وعلى الرغم من أهميتها وأهمية الحاجة إليها، ومع استحضار ضرورة خروجها ومغادرتها للدواخل العميقة من نفسية المنتسبين لهذه الأمة، فهي على الرغم من كل هذا ظلت وتظل متوارية ومختفية وراء كبيرة الغفلة أو الاستغفال المفروض علينا أفرادا ومجتمعات، وملاذات الاستفراغ الروحي والأخلاقي التي نُدفع إليها دفعا ونُساق في صوبها سوقا، من أجل حصول مطلوب الاستسلام، وتأبيد مشاريع اليأس وغلبة الإحساس بالمهزومية.
وهو دفع وسوق يعلم محركو عجلته مستشرف لوازمه، ومدى تأثيره من جهة إمكانية وأده وعزله وتغريبه لكل مجهود معارض، مجهود من شأنه أن يدشن أو يأذن لطلائع جيل التمكين ورعيل الرهان باقتحام عقبة التفكير الصادق والإصرار الراغب في كسر طوق هذا الاستئساد “الكرطوني” الذي شكل ويشكل فزاعة طال وقوفها في وجه مشاريع اقتحام هذه العقبات المصطنعة، والحوائل المثبطة، والمسكنات المسكرة التي أفقدت نهاياتنا العصبية وظيفة الإحساس والاستشعار، وعطلت في جسدنا المتراص استجابة وتداعي سائر الأعضاء تضامنا وحزنا ونصرة للعضو المشتكي من ذلك الجسد المشهود له بالتراص.
إنها عقبات الأسئلة التي تبحث في قضايا ما صرنا نُنعت ونُرمى ونُتهم به في غير رجم بالغيب، من جهل وتخلف وتقليد أعمى، ومتبوعية فاقعة السواد، وتسول واستجداء وارتزاق مخل ومستعبد لجنسنا ونوعنا في رضا منا واستكانة طافحة الذل والهوان.
إنها أسئلة تفتح، أو تحاول فتح باب الفحص والتشريح القادر على معرفة طبيعة المبررات النفسية والأعذار الذهنية، والتي تعد الأرضية الحاضنة والمستقبلة لظاهرة معايشتنا للذل الحضاري، واستمرائنا وخضوعنا وقبولنا الهادئ المريب لإجمالات وتفصيلات تلك التهم المتعلقة بحقيقة تخلفنا وجهلنا، وطول مكثنا في ذيل قوائم الأمم المنظور لها وإليها بعين الإشفاق الكاذب والازدراء الشامت، نستجدي كما هذه الدول الغذاء والدواء والماء والتطهير والكهرباء، وربما تعدت حاجتنا إلى نقي الهواء، وإرسال البصر المتطلع إلى النجم في وسع السماء، ليس تطلع كهانة ولا تنجيم، ولكنه بحث واستشراف لماضي أسلافنا الذي ضاعت معالمه وانمحت أمجاده، وغاب إشعاعه عن وجداننا، حتى كدنا نكون قطعانا من الأنعام هائمة في واد سحيق مباح الكلأ مشاع الماء، وكأننا هنود حمر لم يعرف التحضر لهم وصف انتساب ولا مغنم اكتساب، قطعان من الحفاة العراة يسمع لصلاتنا إيقاع تصدية ووقع مكاء.
تالله أين هذا من ذلك الوصف الرباني الذي وصف به ربنا جل جلاله وجود أمتنا وصحوة دعوتنا، ونعني به وصف الخيرية وخصيصة الوسط بين الأمم حاضرها وغابرها، والوظيفة المتعدية النفع، عبر دفتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضرب أروع الأمثلة التاريخية والحضارية التي يعقلها الخصم والعدو، فإن ردها، فلا يردها إلا متلبسا بنقيصتي العناد والجحود.
والمأساة أن تجد هذه الغفلة وهذا التغافل، والضرب صفحا عن إثارة هذا النوع من الأسئلة، أو النفخ في رمادها المحتفظ بحيويته التاريخية وسخونته الحضارية، بل وطمره تحت ركام الصقيع المهادن والمسالم المستسلم للظروف المرضية التي تعيشها أو باتت تعيشها الأمة، هي غفلة وضرب وطمر دفعنا في مقابله حظا لا يستهان بكمه وكيفه من سيل دمائنا المراقة بفوضى هناك وهنالك، وسطو على رصيد كرامتنا، وانتهاك لصوصية لمخزون ثرواتنا الظاهرة والباطنة بين أقصى المشرق وأدنى المغرب، بل فتحنا في وجه هذه الغزوات الشائنة والغطرسة المنطلقة في صوبنا ذراعي الاستقبال المحفوف بفرط التسامح وسذاجة التفكير في العواقب، وغباوة إحسان الظن بمن ساموا أجدادنا سوء العذاب، وأذاقونا من ضراوة مكرهم بنا واجترائهم علينا دونما توجس منهم ولا خيفة ما الله به عليم.
والأكيد أنه من العار -في عصر يستدرك فيه المثقفون من بني الجلدة عن التيامن والتشامل في فقه ولوجيات المساجد ودور التخلي، بل يلصقون بمنطق نوعها وجنسها كل سقطة وانحدار، بل لا يتورعون عن رميها واتهامها على أنها أمور تجاوزها عصر شطر الذرة ووصول الرجل الأبيض إلى سطح العرجون القديم- أن تظل الأمة الإسلامية بمعزل عن سائر الأمم صريعة وضحية أحوال وسيرة صنف من هؤلاء الذين لم يكونوا طيلة مشوار تصدرهم للمشهد الثقافي الرسمي، أو السياسي الحزبي، أو الاقتصاد السوقي، أو الديني المؤسساتي، حازمين ولا حتى صريحين في تعاطيهم مع الإجابات عن الأسئلة التي لها تعلق، وتحقق يخص وينسحب على بحث أسباب ومسببات ما وصلنا إليه من انحطاط وترد استوعب مناحي متعددة ومساحات زمنية من تاريخنا المعاصر، بل ولا يستطيعون حتى دفع صك الاتهام الذي يُحَمِّل سياساتهم -فيما يعود لهم فيه الاختصاص بالتوجيه والتنفيذ- كامل المسؤولية عن هذا الوضع الحائف، الذي خفت فيه موازيننا، وتطايرت صحف بضاعتنا المطففة تحت أقدام الأقوياء الذين أذكوا ويذكون فينا بمساعدة معشر المطففين منا نزوات السير في مناكب الأرض على غير سبيل الله وغير هداه.
ولربما لم يعد صالحا أن تبقى هذه الأسئلة متوارية وراء إجمالات السطور، وإن كان الكشف عنها في مقام ترتيب الأولويات له فرض كفائي وآخر عيني، أو بمعنى آخر فإنه يهمنا تجلية الجانب المتعلق بجنس هذه الأسئلة أكثر مما يهمنا الوقوف طويلا مع تفصيلات لها منعرجات قد ينسينا عود بدء نوعها المتكرر مقاصد هذه التجلية وأهدافها.
ـ إنها أسئلة موضوع بحثها الأسباب التي جعلت أمتنا الموصولة بالله تتذيل الصفوف والقوائم والإحصائيات والتراتبيات…
ـ إنها أسئلة موضوع تشريحها الكشف عن الآليات والوسائل التي يعزى إليها هذا الوهن والانكسار الذي تناول بنياننا بكامله أو كاد.
ـ إنها أسئلة موضوع مادتها الخام إظهار ما وقع من انسلاخ واستحالة جعلت المسلم سليط اللسان موبوء الجنان يعتقد أن الابتعاد عن الإسلام يخفف البلاء النازل أو يرفعه.
ـ إنها أسئلة تحاول تحويل وجهة وصوب أصابع الإدانة والاتهام إلى الجهة المسؤولة عن إفساد الزرع وهلاك الضرع…
ـ إنها أسئلة تريد أن تزيل عن جهات الإفساد والفساد أقنعة قيم الإصلاح ودعوى الصلاح.
ـ إنها أسئلة تستهدف معالجة آفات مزاعم الخصومة المفتعلة بين الدين والعلم، وبين الدين والتقدم المادي الباهر.
ـ إنها أسئلة تبحث في زعم إدانة الإسلام، وإلباسه مسؤولية ما وصلت إليه الأمة من وضع كارثي، مع أن الوقائع على الأرض تحكي بالصوت والصورة والرائحة أن الإسلام الحقيقي مقصي مبعد محجر عليه، وأن أصحاب الحق المدني في هذه الدعوى وهذا الاتهام كانوا قد أوجدوا نسخة مشوهة من التدين لا تربطها بأصل إسلام الوحي صلة.
ـ إنها أسئلة تبغي إماطة اللثام عن جوقة اللئام الذين استفادوا من نفوذهم الواسع والمتسلط في أجهزة التوجيه والإعلام في أغلب بلاد المسلمين، فصار طرحهم الباغي هو الأصل وما دونه استثناء، بل أعطيت لهم بتأشير إقليمي مساحات واسعة ملؤوها ضجيجا وشكوى ضد الإسلام ومعشر الملتزمين بعراه.
ـ إنها أسئلة مقصودها التحذير من معسول كلام المفسدين، ومن ثم اجتناب دخول أتون فتنتهم من بوابة ما درجوا على التشدق به والتدثر بلباسه لباس الناصح الأمين المشفق على أمته الغيور على وطنه.
ـ إنها أسئلة تعين على الوقوف على فقدان المفسدين لحقيقة ما يدعون، وأن سعيهم كان دائما في نقيض ما يظهرونه فعلا وقولا من حرص على مصالح الوطن، وصدق انتساب إلى ترابه، وشديد اهتمام بقضاياه الكبرى.
ـ إنها أسئلة تعري عن حقيقة ما يحمله المفسدون باسم الإصلاح في أحشاء فلسفتهم من خطورة تدليس يستقطب المتهافتين لحمل ألويتهم، والكرع من غور ملح أجاجهم.
ـ إنها أسئلة لابد أن تحيل إجاباتها الدقيقة على أوصاف وتقاسيم ومعالم ومَئِنات من جر ويجر على أمته طوفان الذل والانكسار والتأخر والانجحار، أكان هو الملتزم بعرى إسلام الوحي، أم سماسرة الاستغراب، أم من المتعالمين الذين باعوا حظ الآخرة بعرض من الدنيا قليل.
ولا شك أن هذا لن يقع بمستيسر الجهود، ولا كبير الأحلام، ولا بالركون إلى الاعتقاد بحتمية الغلبة في آخر المطاف، فإن هذا له حينه ومستشرف زمانه العقدي، الذي نجني وسنجني من وضعه وموضعه ساعة وقوعه كما أخبر بذلك الكتاب المبين وسنة سيد المرسلين ثمرات الصبر والمصابرة، وامتياز التمكين بعد دوام الرباط الفكري واقتحام عقبة مكرهة المرابطة، ذات الأسس المعرفية الرصينة التي تكون وستكون لها الدائرة بعد جميل المدافعة، بل وسينال أصحابها من الصالحين المتقين حظ الميراث على وفق ذلك الوعد الرباني الخالد في غير ريبة ولا شك همّ وخاطرة مصداقا لقوله جل في علاه: “ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون” وقوله جل جلاله: “إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين”.