تقوم جل نظريات التجديد الفكري عند الأستاذ الفاضل طه عبد الرحمن في عمقها على إعادة تأسيس العقل الإسلامي على الأخلاق الصوفية الطرقية مع حالة رد فعل تجاه الفكر الجابري، وهو جزء من الخيط الرابط بين غالب مؤلفاته، وتؤول نظريته الأخلاقية إلى الممارسة العملية “الصوفية الطرقية” التي تجعل من الشيخ “الطاهر القلب”، والذي يسميه “صاحب التخليق” محور دوران “المريد” الذي يسميه الأستاذ “طالب التخلق”، والتي وصل الأمر بها عنده إلى التبشير بها عالميا في أفق ظهور “الإنسان المنتظر” كما يسميه.
ومن معالمها ما يسمونه التخلق بأخلاق الله، وهو إطلاق غير مأمون، ولذلك يحسن تجنبه، فقد قال ابن القيم في “المدارج”: “هذا موضع يتوارد عيه الموحدون والملحدون”، وهم في هذا يعتمدون على حديث: “تخلقوا بأخلاق الله”، ويقصدون التشبه بالله في صفاته، والحديث باطل، ولا يصح في بابه شيء، وتتضح الصورة حين يركب هذا الحديث الباطل مع الحديث الصحيح “كنت سمعه الذي يسمع به…”، كما يقول الكلاباذي في “التعرف لمذهب أهل التصوف”.
والقصد من ذلك تحصيل السعادة النفسية والمعرفة الإلهامية على غرار وحي الأنبياء، وهو نوع من الغنوصية، ومن ذلك قول الشريف الجرجاني أحد الصوفية النقشبندية المشهورين من القرن التاسع الهجري: “الفسلفة، التشبه بأخلاق الإله بحسب الطاقة البشرية لتحصيل السعادة الأبدية، كما أمر الصادق عليه السلام في قوله: تخلقوا بأخلاق الله، أي تشبهوا به في الإحاطة بالمعلومات والتجرد عن الجسمانيات بقدر الإمكان”!
ليس قصدي هنا تفصيل نظريته الأخلاقية الصوفية، فلهذا موضع آخر إن شاء الله، أبين فيه موقع الأسماء الحسنى والإئتمانية والمعراج الروحي وغيرها من محددات الفكر الأخلاقي الصوفي في نظريته، لكنني أقصد التنبيه على بعض أساساتها ومعالمها في باب المقاصد فقط، وبعد أن بينت في المقالين السابقين ضعف انتقاد الأستاذ لأصول المنظومة المقاصدية عند علماء الشريعة، والتي تقوم على تقسيم مقاصد الشريعة الإسلامية إلى “ضروربات” و”حاجيات” و”تحسينيات” ويسميها القرافي “متممات”، سأعرج على بديل الأستاذ طه -نفع الله به- الذي عرضه، وهو تقسيمه ما يسميه “القيم” إلى ثلاثة أقسام:
(1) “قيم النفع والضرر” وهي “المصالح الحيوية” وتتعلق بالبنيات البدنية والمادية.
(2) و”قيم الحسن والقبح” وهي “المصالح العقلية” وتتعلق بالبنيات النفسية والعقلية مثل الثقافة.
(3) و”قيم الصلاح والفساد” وهي “المصالح الروحية” وتتعلق بالبنيات الروحية والمعنوية مثل الحب الذي يعد وفق “ولتر ستيس” الأساس الوحيد والوصية الوحيدة للأخلاق الصوفية.
والملاحظ في هذا التقسيم أنه يكاد يتطابق مع تقسيم أحد أشهر فلاسفة الأخلاق الألمانيين المتصوفة، وهو ماكس شيلر “Max Scheler”، والذي قسمها وفق نظرية خاصة في طبقات بناها على مجموعة من المحددات، فجعلها أربعة، الأولى متعلقة بالمادة خارج الإنسان، ولا تهمنا، وثلاثة متعلقة بالإنسان:
(1) “القيم الحيوية” وهي متعلقة بالنفع والضرر البدني.
(2) “القيم الثقافية والروحية”وتحتها مفهوم “الصواب والخطأ” العقليين و”الجمال” و”الحق”.
(3) “القيم الدينية” وتحتها قيمة “الحب”.
وبما أن القيم الروحية في نظرية الأستاذ طه حفظه الله هي نفسها القيم الدينية، فقد نقلها من المرتبة الثانية إلى الثالثة، وفصلها عن “القيم العقلية”!
يبدو أن الأستاذ طه عبد الرحمن في نقده وتنظيره كان متأثرا من وجه ما مباشر أو غير مباشر بنظرية القيم وتراتبيتها عند علماء الأخلاق الألمان الكاثوليك المتصوفة مثل “ماكس شيلر” في نظرته للقيم ومحلها من هوية الإنسان وعلاقة الفعل القيمي بالمعرفة الإلهامية المستمدة بالتأمل الصوفي على ما ورد في مقالات له نشرها هانز ليوناردي سنة 1980م، وبسلمه القيمي الذي “يقود إلى الله مرورا بالخير” كما يقول “جان بول رزفبر”.
وهو أمر يحتاج إلى متابعة خاصة، على أن الأستاذ طه كان له تدخل في إعادة صياغة الترتيب القيمي، لكنه لم يتخلص من مرجع وإحداثيات النظرية الأخلاقية الشيليرية، وهو ما لوحظ على نظرية القيم التي عرضها بديلا عن علم المقاصد كما عرضه العلماء المسلمون.
وما كتبه الشاطبي يدل على عمق وروعة التفكير الفقهي الإسلامي وجماليته وإحكامه لمباحثه، وهو الحقيق بأن يكون العقل المؤيد والبرهاني، ومن لطيف التنبيهات الفقهية الدالة على عمق التأصيل الشرعي عند الفقهاء قول ابن حجر في شرح حديث: “إن من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل، ويظهر الزنا وتكثر النساء ويقل الرجال..”، وفي رواية “ويشرب الخمر”، وفي رواية: “ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج” -والهرج القتل-: “وكأن هذه الأمور الخمسة خصت بالذكر لكونها مشعرة باختلال الأمور التي يحصل بحفظها صلاح المعاش والمعاد، وهي الدين لان رفع العلم يخل به، والعقل لأن شرب الخمر يخل به، والنسب لأن الزنا يخل به، والنفس والمال لأن كثرة الفتن تخل بهما” قلت: والنفس، لأن القتل يخل بها، فتأمل.
تقوم النظرية الأخلاقية عند فقهاء الإسلام على منصة استقراء القرآن الكريم والحديث النبوي والتوسل بمقتضيات الفطرة، “فصلاح العباد وقوامهم بالفطرة المكملة بالشريعة المنزلة”، ولذلك استطاعوا الغوص إلى حقائق الأخلاق، وتفطنوا إلى دقيق المعاملات، فكانت أولى ملامح التحقيق عندهم أن الأخلاق نوعان باعتبارها معاملة راقية، أخلاق المعاملة مع الخالق -وهي أشرفها كما قال الآجري الفقيه المحدث في “أخلاق العلماء”- وأخلاق المعاملة مع الخلق.
وكان مفهوم “حسن الخلق” بالمعنى الأعم عندهم مطابقا “للدين الإسلامي”، بل صرح الفقيه والمفسر محمد الأمين الشنقيطي بأن “الأخلاق هي البعثة”! ولذلك رووا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه فقيه الأمة في قوله تعالى: “وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ” أنه قال: “دين عظيم”، وعليه جرى كبار الفقهاء مثل سفيان بن عيينة وأحمد وأتباع الأئمة وجمهور من المفسرين وإن اختلفت عباراتهم، ومن ذلك قول الشاطبي: “وإنما ذلك لأنه حكم الوحي على نفسه حتى صار في علمه وعمله على وفقه”، فجعل الشاطبي موافقة القرآن علما وعملا معنى عظمة خلقه صلى الله عليه وسلم.
ومن الآيات الجامعة في ذلك قوله تعالى: “..وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى..” الآية، وفي صحيح مسلم مرفوعا: “البر حسن الخلق” فيكون كل المذكور في هذه الآية من سورة البقرة هو نفسه حسن الخلق ومثلها آية “وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ..” فتأمل.
ومن ملامحها أنها أخلاق تحرر من الوساطات، فلا يحتاج المؤمن في تخلقه وسائط، ولذلك يتوسل للتحلي بها بتوجيهات القرآن الكريم النافذة، وتسديدات سنة النبي صلى الله عليه وسلم العميقة، وسؤال الله التوفيق في كل ذلك، والاسترشاد بالفقهاء، فهم أعلم بأصول الأخلاق الإسلامية وحقائقها، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: “اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت”، ومنها قوله: “اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي”، فحسن الخلق طريق الشكر والتعبد، ووسيلة لاستجداء الفهم في الكتاب والسنة، وليس طريقا غنوصيا يكتسب به المعرفة الإلهامية المنزلة المجردة عن النظر.
ومن لطائف الفقهاء في هذا قول الفقيه الحنبلي أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية في قوله تعالى: “وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا”:”هذا أمر بمعالي الأخلاق، وهو سبحانه يحب معالى الأخلاق ويكره سفسافها”، وقد نبه الفقيه الحنبلي محمد بن صالح العثيمين على أن ثم أخلاقا في معاملة الخالق سبحانه هي الأصل، وجعلها جامعة لثلاثة أمور:
(1) تلقي أخبار الله تعالى بالتصديق.
(2) وتلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق.
(3) وتلقي أقداره بالصبر والرضا.
وأزيد عليها رابعا وهو:
(4) تلقي نعم الله تعالى بالشكر.
ويؤكد هذا أن الله تعالى قال -كما في الصحيح-: “كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا” وهو يقتضي أن توحيد الله وتنزيهه عن الولد والإيمان بالبعث من أعظم حسن الخلق مع الله، وتفصيل كل هذا يطول، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا الأنبياء.