بعد طول كد، وعناء جهد طبع المسيرة النضالية والسعي الحقوقي، ورفع لواء الحرب النسائية المعلنة هنالك وهناك وهنا ضد الرجل، أو في مجابهة الفكر الذكوري وتسلطه كما يطيب للكثيرات النبس بوسمه ووصفه، وبعد سراب المكاسب وبقيعة الانتصارات المترادفة في وهم وتدليس، وقفت السيدة “غنيمة الفهد” رئيسة تحرير مجلة أسرتي الكويتية لتعلن في انكسار ويأس وتبرم من طول التمسك بخيط دخان، وقفت لتسجل اعترافها في غير استعباد ولا مكرهة جبر ومذلة صبر قائلة: “كبرنا وكبرت آمالنا وتطلعاتنا -نلنا كل شيء- نهلنا من العلم والمعرفة ما يفوق الوصف… أصبحنا كالرجل تماما: نسوق السيارة، نسافر للخارج لوحدنا نلبس البنطلون، أصبح لنا رصيد في البنك ووصلنا إلى المناصب القيادية… واختلطنا بالرجال ورأينا الرجل الذي أخافنا في طفولتنا… ثم… الرجل كما هو… والمرأة غدت رجلا، تشرف على منزلها وتربي أطفالها وتأمر خدمها… وبعد أن نلنا كل شيء وأثلجت صدورنا انتصاراتنا النسائية على الرجال في الكويت أقول لكم وبصراحتي المعهودة : ما أجمل الأنوثة وما أجمل المرأة… المرأة التي تحتمي بالرجل ويشعرها الرجل بقوته ويحرمها من السفر لوحدها ويطلب منها أن تجلس في بيتها ما أجمل ذلك تربي أطفالها وتشرف على مملكتها… وهو السيد القوي، نعم أقولها بعد تجربة: “أريد أن أرجع إلى أنوثتي التي فقدتها أثناء اندفاعي في الحياة والعمل”.
أجل هو إقرار عزيز من هذه السيدة، وهو كذلك دون الدخول في تفاصيل تستشف وتعمل مقص التشريح للدواخل والنوايا والمقاصد، وهو كذلك لأن كما غفيرا من النساء اليوم لا يزال ينفر فرارا من ضنك ذلك السراب القاتل الخادع، بل ويتشبث بأذيال الأمل الذي ذيلت به هذه السيدة ووقعت به على نهاية بوحها الغريزي، الطافح بمقتضيات الطبع ولوازم الفطرة التي فطر الله الناس عليها جميعا، والذي عبرت عنه بمأمول رجوعها إلى أن تعيش فطرتها التي ضاعت منها طيلة وقوفها في طابور المعركة وتواجدها في الصفوف الأولى للمواجهة، تنتظر مدد السمو وعون الغلبة من مجمع اللصوص وجوقة الذئاب البشرية المتهارشة على وليمة جسدها وقصعة أنوثتها في غير رحمة ولا شفقة، فتالله كم من عرض سال دم شرفه على أعتاب خبايا هذه العلل الموبوءة والأحقاد الدفينة، بل كم من جهد وكلفة عتق من النار تحتاجه الأمة لتغسل آثار هذا النزيف وتكف بأسه وتنقي محله من أوضار الوهن والهزيمة والاستجداء بمداد مدافعة بذل وفداء…
لقد جاء عيد المرأة هذه السنة واللواتي قبلها وأعراض الحرائر في مشارق الأرض ومغاربها تغتصب ويمثل بها وتسيل دماؤها مدرارا، بل وتبقر بطون الشريفات العفيفات وتدفن أجسادهن تحت الثرى في صمت وكف وإسرار دون الاستصراخ بمعتصماه، مرت أعياد مارس وحسبت أن نسوة المدينة سيرفعن عقيرة المواجهة نصرة لأخواتهن من المستضعفات، أو أن عضلة في وجوههن الذكورية المستقبحة في غير شماتة سوف تتقلص معلنة سخطها ومسجلة غضبها ضد ما ينزل بأخواتنا وأخوات جنسها، ولكن وما أصعب الاستدراك، لقد كان صوب المواجهة النسائية وبذل العداوة مهرولا في مسعى تكريس وهم ظلم الإسلام وتسلط أحكامه، بدءا بالإرث وعطفا بتميز القوامة وتعريجا على مؤسسة الزواج وقَدَرَة الخلع والطلاق وضنك الوقر في البيت ومصيبة التعدد وامتياز الذكورة.
لقد حشدت الطاقات وتحركت السخائم النسائية تبغي تكسير الطابوهات الدينية، وتروم التحلل من مكرهة الحلال والحرام، وتنشد المشاعية التي لا تبقي ولا تذر، وهذه حقيقة تؤكدها الوقائع على الأرض، وتشهد لها هذه التحريفات المتكررة في ترادف، والمتدثرة بإيهاب مدبوغ بأحاسيس أنثوية حارة وخيالات دافعة مائعة، يسجل التاريخ اليوم أنها ذاهبة مذهب الفشل الباعث على الشفقة والأسى، ويشهد لهذا الفشل والهزيمة ذلك البوح والإقرار الأنثوي الذي هو من جنس ما سلف في السطور الأولى من هذا المحبور، وليس هو من باب الناذر الذي لا حكم له، ذلك أن المعطيات والأرقام الناضحة بنسب الطلاق المتصاعدة، وطوابير العنوسة الضاربة في طنب الصف النسائي، وتغول حالات الاكتئاب الفازع ضحاياه في شوق ونهم لإسكات وخز ألمه بمأمول الأمومة وبغية وظيفة، وتبعل الزوج ومنقبة تربية النشء، وكلها أمور تؤكد مجتمعة وتسير فرادى في صوب الاطراد الذي يطبع اللون النسائي في ثوبه المدني المتحامل في مكرهة وجبر سوق على ذلك العود والرجوع المنشود، والذي ليس هو حكرا على السيدة غنيمة الفهد لوحدها، وإنما هو مستوعب للطيف الرامز لما تمثله هي من خيار مشوب بمجموع عيوب الرضا، إذ الفرق بينها وبين متشاكلات نسيجها الأنثوي يبقى فارقا محصورا في امتياز قدرتها على البوح وجرأتها على طرق واقتحام عقبة الحقيقة المحجر عليها، والواقع المتواري وراء الأصباغ الحداثية، والأستار السرابية الخادعة.
إن الأستاذة غنيمة الفهد لم تتكلم، أو بالأحرى لم يخرج الكلام منها مخرج التمرد على الذات أو جلدها بسوط الندم الصادق التوبة والإنابة، ولكنه كان كلاما ولا يزال وسيبقى إن شاء الله صراخا وبوحا يحيل على معاناة لا يزال النسيج النسوي أو الحالة الأنثوية بأدق تعبير تمتص ضرباته في صمت مريب، وتتحمله في كبير ألم مع ممنوع أنين، بدليل بقاء حال السيدة على ما هو عليه، دون تسجيل أي تغيير سلوكي أو استجابة لندائها الوجداني، وشوقها بعد طول اندفاع في الحياة والعمل إلى استرجاع أنوثتها المفقودة كما أقرت وأفادت هي برضاها وطيب خاطرها.
والمهم أن نعرف أن ذلك الاستدراك لم يأت من فراغ أو تمخض عن عدم، أو دعت إليه دواعي مجاملة ومحاباة في موقف أو مجلس أو على صفحات جريدة سُلطتها لا تحابي ولا تقبل بالرأي والرأي الآخر، ولذلك فلا نملك إلا أن نصدق السيدة ونحمل شكواها، وأنين ضميرها، ومعتبر شوقها، على حقيقة ما حبلت به ظواهر كلماتها دون اعتداء صرف أو تكلف تأويل، وهذه حقيقة لا تحجب أخرى أكثر اتساعا واستيعابا للطيف النسائي الذي ما فتئ يخوض حربه قالبا ومتمردا في جحود وجفوة على سوي الفطرة ومراد الله من خلقه، سيما وأننا بتنا نعلم أن الحركات والمساعي الغير حميدة التي تبناها هذا الطيف هي في الأصل حركات خُلقت لتجرد الرجل من القوامة وتسلبه امتياز ما قدمه من سبق هجرة وعظيم إنفاق ومجاهدة في سبيل الله، بل نراها تسعى جادة جاهدة في غير ملل ولا كلل في محاولة منها إلى خلق خصومة، بله عداوة بين جنس الرجل وجنس المرأة، مزعزعة في قصد مدخول أمن وسلامة المجتمع، وقادحة في تشاكل وتجانس النسيج والمقوم البشري للجبهة الداخلية، ومفقدة سالبة هذا المجتمع قوته وأسبابها، إلى الحد الذي يصير معه الكل كلأ مباحا مستباحا من طرف المتسلطين، وكل من سهل عليه من الأعداء النفاذ إلى صميم كيانه، والعبث بمكوناته الحضارية…
ولعل أكبر ما يحز في النفس أن تعلم علم اليقين أن هموم وانشغالات وآمال ومتمنيات جمهرة النساء المسلمات هي في واد له شعابه وخصوصياته، بينما نجد أن أحلام، بل أطماع سيدات المجتمع المدني وضجيج صراخها المنتشر في الآفاق، هي شبهات غالبة وشهوات طامسة لها واد سحيق ووأد عميق، له ضحاياه من الموءودات المعاصرات، ولك أن تزيد من عميق الحز وكبير الأسى إن أنت علمت أن وكالة دفاع نسوة المجتمع المدني الحداثي عن أمهاتنا وأخواتنا وزيجاتنا وبناتنا وعماتنا وخالاتنا، وحبل معطوفات الأوصاف المرضية طويل الذيل عريض المنكبين، هو دفاع كان ولا يزال فاقدا لشرعية التوكيل وصحته من جهة أن الطرف الموكَل لم يأت ببينة على دعواه، بينما لا يتوانى الطرف المنكر على أن يقسم باليمين المغلظة في كون هذه الوكالة هي وكالة من غير تفويض، بل هي كفالة وتحجير على حقوق عين كاملة الأهلية تتعجل العمل وتتأجل الاحتساب، وعند ربها تلتقي الخصوم.