ارتبط تاريخ المغاربة بالقدس والخليل منذ الأيام الأولى التي اعتنقوا فيها الإسلام، وكان جل حجاجهم يمرون بفلسطين، عند رجوعهم من الحج لينعموا برؤية مسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينالوا أجر مضاعفة الصلاة في المسجد الأقصى .
وقد شد الرحال للمسجد الأقصى المئات من طلبة العلم المغاربة وأعلامهم ممن كانوا نبراساً في الديار المغربية، فأفادوا واستفادوا من مجالس العلم وعلماء بيت المقدس؛ حيث اشتهر المسجد الأقصى بحلقاتِ قراءة القرآن وحفظه وتدارسه، فقد كان مركزاً هامّاً لتدريس العلوم الإسلامية على مدى العصور، وواحداً من أكبر معاهد العلم في العالم الإسلامي كله، وهو أول معهد إسلامي في فلسطين.
ففي القرن الخامس الهجري بوجهٍ خاص كان المسجد الأقصى مركزاً لحياة علميةٍ نشيطةٍ، اشمتلت من العلوم على الأخص علمي الحديث والفقه، واجتمع بالمسجد الأقصى علماءُ «المقادسة» مع علماءٍ من بلدان العالم الإسلامي المختلفة من المشرق والمغرب، وذكر عارف العارف في «تاريخ القدس» أنه: «كان في المسجد الأقصى ثلاثمائة وستون مدرساً»(1) حينذاك.
وقد أورد مجير الدين الحنبلي في الجزء الثاني من «الأنس الجليل» سيراً مختصرة لحوالي (440) عالماً وقاضياً وخطيباً ومؤلفاً ممن عاشوا وعملوا في بيت المقدس منذ الفتح الصلاحي وحتى سنة (900) للهجرة، أي: خلال (300) سنة، وهذا بالطبع لا يشمل إلا جزءاً يسيراً من العلماء والفقهاء الذين عملوا في القدس والمسجد الأقصى في تلك القرون الثلاثة؛ حيث لا يمكن إحصاؤهم جميعاً(2).
وكانت أروقة المسجد الأقصى والدور التي فوقها تستخدم للتدريس، ومساكن للطلاب، ومصاطب(3) العلم استوعبت مئات المدرسين لإلقاء دروسهم، فالمسجد الأقصى بمنزلة جامعة تدرس فيها العلوم الشرعية وغيرها، ويفد إليه الأساتذة والطلبة من شتى أرجاء العالم الإسلامي والمغرب على وجه الخصوص، ومن الطلبة المغاربة من أخذ الرواية والسند في الحديث وغيره من العلوم عن محدثي بيت المقدس .
وقد أورد ابن عثمان المكناسي في رحلته من المغرب إلى القدس والخليل(4) الكثير من المعلومات التي خلت منها كتب من سبقوه من الرحالة المغاربة ففيها وصف دقيق للقدس والخيل وكتبها ومخطوطاتها النادرة والتآليف الهامة، ويزيد في أهمية رحلة ابن عثمان المكناسي أنها كانت في تاريخ هام (1202هـ-1788م) وتلك كانت مرحلة تحولات أدت إلى أن استعر التنافس بين الجهات ذات المصلحة في الأماكن المقدسة، وكان المكناسي شاهد عيان نقل الكثير مما شاهده من أحداث في فترته.
وقد أشار ابن عثمان المكناسي عندما دخل القدس الشريف إلى أوقاف المغاربة بالقدس وقال: إن عليها وكيلاً ولها أوقاف، والواقع أن مثل هذه الأروقة والزوايا مما ظل الرحالة والمؤرخون يرددون صداه منذ وقت مبكر(5).
ويشير د. عبد الهادي التازي إلى الحضور المغربي بكثافة في القدس والخليل منذ تاريخ مبكر.. فلقد تنبه المغاربة لما يهدد بيت المقدس من غزو، وبهذا نفسر وجود عدد كبير من العقارات في المدينة المقدسة وخارجها وأصبحت منذ العصور الأولى ملكاً للمغاربة(6).
وقد ذكر مجير الدين في كتابه الأنس الجليل مضمون وثيقة ترجع إلى عام 703هـ-1303م، وهي عبارة عن وقف الشيخ الصالح عمر بن عبد النبي المغربي المصمودي الملقب بالمجرد، بتعمير الزاوية المعروفة بزاوية المغاربة(7).
وقد كانت أوقاف المصمودي محبّسة على المغاربة المحتاجين سواء منهم المقيمون بالقدس أم العابرون، وكان يشرف المصمودي بنفسه على الأوقاف، وقد اشترط لمتولي أوقافه في حالة وفاته أن يكون من جنس المغاربة المختارين من ذوي التقى والصلاح .
وقد حررت في شهر رمضان سنة 720هـ-1320م حجة وقف للعالم أبي مدين (الحفيد)، تثبت أنه حبس مكانين اثنين كانا تحت ملكه وتصرفه، وكان يتولى هو نفسه الإشراف عليهما، وهما قرية عين كارم من قرى مدينة القدس الشريف، وقنطرة أم البنات بباب السلسلة وهو يشتمل على إيوان وبيتين وساحة ومرتفق خاص ومخزن وقبو يقعان سفلي ذلك(8).
وتنص الوثيقة على أن كلا من قرية عين كارم وأم البنات حبس على المغاربة المقيمين بالقدس أو القادمين إليها، وتوضح الوثيقة شروط الانتفاع من قرية عين كارم، وأنه لا ينبغي أن تؤجر لأكثر من سنتين وألا يستأنف عقد إلا عندما ينتهي العقد الأول، وذلك حتى لا يتهددها سطو أو ادعاء(9).
ومن إنذار وتهديد المعتدين جاء في حجية وقف أبى مدين لقرية عين كارم ما نصه: «ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم أنه إلى ربه العظيم صائر، من أمير أو مأمور وذي سلطان جائر، أن يبطل هذا الوقف.. ومن فعل ذلك وأعان عليه فالله تعالى طليبه وحسيبه ومؤاخذه ومجازيه، ومن خالف ذلك فقد عدل عن أمر ربه وتمرد عليه واستحق لعنته».
أوقاف المغاربة هل من مُطالب؟
حي المغاربة في القدس، من الأحياء الوقفية التي أوقفت بعد الفتح الصلاحي لما كثر عدد المغاربة بعد استرداد صلاح الدين بيت المقدس، وقد وثق ذلك الوقف الملك الأفضل نور الدين أبو الحسن، والذي حوى الأراضي والمساكن المحيطة بحائط البراق وأصبح الحي يدعى بحارة المغاربة أو الحي المغربي .
وأنشأ لهم في الحارة نفسها مدرسة عرفت بالأفضلية وأوقفها على فقهاء المالكية في بيت المقدس، فضلاً عن أوقاف أخرى أوقفها الأفضل نور الدين، وأوقف أعيان المغاربة أوقافاً مهمة عدة في القرن السابع الهجري .
وفي السنوات العشر الأولى للانتداب البريطاني قامت الصهيونية بمحاولات عدة للاستيلاء على الحائط وعلى منطقة حارة المغاربة، وكان أول عمل قام به اليهود بعد احتلالهم مدينة القدس سنة 1387هـ (1967م) الاستيلاء على حائط البراق، ودمروا حارة المغاربة، وتم تسويتها بالأرض بعد أربعة أيام من احتلال القدس؛ حيث توجهت الجرافات اليهودية إلى الحي المغربي داخل أسوار مدينة القدس وهدمته بكامله، وشردت 135 عائلة من سكانه المسلمين بلغ عدد أفرادها 650، كما نسفت 34 داراً أخرى مجاورة ومصنعاً للبلاستيك، وشرد سكانها وعمالها البالغ عددهم حوالي 300 آخرين.
وكان في حارة المغاربة قبل أن تهدم أربعة جوامع، والمدرسة الأفضلية وأوقاف أخرى، وأصبحت حارة المغاربة في ذاكرتنا بعد أن كانت أوقافاً إسلامية، ويطلق عليها اليهود الآن «ساحة المبكى» بعد أن دفنوا تاريخ حارة وقفية إسلامية.
ـــــــــــــــــــــــ
1 -معاهد العلم في بيت المقدس، د.كامل العسلي، ص29.
2- معاهد العلم ص35.
3- أماكن هُيِّـئَتْ ليجلس عليها طلاب العلم للاستماع إلى الدروس، ويقدر عددها في المسجد الأقصى بقرابة ثلاثين مصطبة.
4- ورحلة المكناسي تحمل عنوانه: «إحراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام وزيارة القدس الشريف والخليل» وكاتبها هو الأديب والفقيه والوزير والسفير محمد بن عثمان المكناسي، كان سفيراً للسلطان محمد بن عبد الله (الملك محمد الثالث) في بلدان متعددة ومهام متنوعة .
5- انظر: القدس والخليل في الرحلات المغربية (رحلة ابن عثمان نموذجا) تقديم وتحقيق د.عبد الهادي التازي، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة-إيسيسكو (1418هـ -1997م)، ص34.
6- المصدر السابق ص34.
7- الأنس الجليل (2/45/-146-163).
8- القدس والخليل في الرحلات المغربية ص36.
9- وهذا بُعد نظر في الحفاظ على تلك الأوقاف حتى لا يدعي أحد أنه ملك ذلك الوقف بعد طول مدة الانتفاع الذي ينتقل غالباً من جيل إلى جيل، فتتعامل مع الوقف الأجيال المتأخرة وكأنه ملك لهم، ولاسيما بعد ضياع حجج الوقف، وتضييع الاحتلال المعاصر والأنظمة التي تلته للوقف الإسلامي.