إذا تأمل المتأمل فساد العالم وما وقع فيه من التفرق والاختلاف، وما دفع إليه أهل الإسلام، وجده ناشئا من جهة التأويلات المختلفة المستعملة في آيات القرآن وأخبار الرسول التي تعلق بها المختلفون على اختلاف أصنافهم في أصول الدين وفروعه، فإنها أوجبت ما أوجبت من التباين والتحارب وتفرق الكلمة وتشتت الأهواء وتصدع الشمل وانقطاع الحبل وفساد ذات البين حتى صار يُكفر ويَلعن بعضهم بعضا، وترى طوائف منهم تسفك دماء الآخرين وتستحل منهم أنفسهم وحرمهم وأموالهم ما هو أعظم مما يرصدهم به أهل دار الحرب من المنابذين لهم.
فالآفات التي جنتها ويجنيها كل وقت أصحابها على الملة والأمة من التأويلات الفاسدة أكثر من أن تحصى أو يبلغها وصف واصف أو يحيط بها ذكر ذاكر، ولكنها في جملة القول أصل كل فساد وفتنة، وأساس كل ضلال وبدعة، والمولدة لكل اختلاف وفرقة، والناتجة أسباب كل تباين وعداوة وبغضة.
ومن عظيم آفاتها ومصيبة الأمة بها أن الأهواء المضلة والآراء المهلكة التي تتولد من قبلها لا تزال تنمو وتتزايد على ممرّ الأيام وتعاقب الأزمنة، وليست الحال في الضلالات التي حدثت من قبل أصول الأديان الفاسدة، كذلك فإن فساد تلك معلوم عند الأمة، وأصحابها لا يطمعون في إدخالها في دين الإسلام، فلا تطمع أهل الملة اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية ولا الثانوية ونحوهم أن يدخلوا أصول مللهم في الإسلام، ولا يدعوا مسلما إليه ولا يدخلوه إليهم من بابه أبدا، بخلاف فرقة التأويل فإنهم يدعون المسلم من باب القرآن والسنة وتعظيمهما وأن لنصوصهما تأويلا لا يوجد إلا عند خواص أهل العلم والتحقيق، وأن العامة في عمى عنه، فضرر هذه الفرقة على الإسلام وأهله أعظم من ضرر أعدائه المنابذين له.
ومثلهم ومثل أولئك كمثل قوم في حصن حاربهم عدو لهم فلم يطمع في فتح حصنهم والدخول عليهم، فعمد جماعة من أهل الحصن ففتحوه له وسلطوه على الدخول إليه، فكان مصاب أهل الحصن من قبلهم.
وبالجملة فالأهواء المتولدة من قبل التأويلات الباطلة غير محصورة ولا متناهية بل هي متزايدة نامية بحسب سوانح المتأولين وخواطرهم وما تخرجه إليه ظنونهم وأوهامهم..
فالتأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه، ومعلوم أن العلوم إنما قصد بها مصنفوها بيانها وإيضاحها للمتعلمين وتفهيمهم إياها بأقرب ما يقدرون عليه من الطرق، فإن سلط التأويل على ألفاظهم وحملها على غير ظواهرها لم ينتفع بها وفسدت وعاد ذلك إلى موضوعها ومقصودها بالإبطال، فإذا حمل كلام الأطباء على غير عرفهم المعروف من خطابهم وتأول المخاطب كلامهم على غير ظاهره لم يصل إلى فهم مرادهم البتة بل أفسد عليهم علمهم وصناعتهم، وهكذا أصحاب علم الحساب والنحو وجميع أرباب العلوم إذا سلط التأويل على كلامهم لم يوصل إلى شيء من تلك العلوم مع أنه يجوز عليهم الخطأ والتناقض والتلبيس في بعض المواضع والتعمية، ومع قصورهم في البيان ووجوه التعبير، ومع نقصان إدراكهم للحقائق وعلومهم ومعارفهم، فكيف يسلط التأويل على كلام من لا يجوز عليه الخطأ والغلط والتناقض وضد البيان والإرشاد، هذا مع كمال علمه وكمال قدرته على أعلى أنواع البيان وكمال نصحه وهداه وإحسانه وقصده الإفهام والبيان لا التعمية والإلغاز، ولهذا لما سلط المحرفون التأويلات الباطلة على نصوص الشرع فسد الدين فسادا لولا أن الله سبحانه تكفل بحفظه وأقام له حرسا وَكَلَهم بحمايته من تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين لجرى عليه ما جرى على الأديان السالفة، ولكن الله برحمته وعنايته بهذه الأمة يبعث لها عند دروس السنة وظهور البدعة من يجدد لها دينها، ولا يزال يغرس في دينه غرسا يستعملهم فيه علما وعملا.
وكما أن التأويل إن سلط على علوم الخلائق أفسدها فكذلك إذا استعمل في مخاطباتهم أفسد الأفهام والفهم ولم يمكن لأمة أن تعيش عليه أبدا، فإنه ضد البيان الذي علمه الله الإنسان لقيام مصالحه في معاشه ومعاده.. وبالله التوفيق. (الصواعق المرسلة لابن القيم رحمه الله)