يعد طلب حصول المسلم على جنسية دولة غير إسلامية، أو ما يسمى بالتجنس، من المسائل المستجدة في الفقه الإسلامي، وهي ذات شعب متعددة إذ يتجاذبها الجانب العقدي والجانب الفقهي والجانب السياسي، ولهذا كانت مسرح اختلاف بين الفقهاء المعاصرين، وقد ارتأى بعضهم أن يبينوا حكمها الشرعي استنادا إلى قاعدة الحاجة؛ (الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت او خاصة). وقد حاولنا في المقال السابق أن نجيب عن أسئلة تتمحور حول مفهوم التجنس وأصل حكمه في الشرع والأحوال المستثاة من ذلك الأصل، وفي هذا المقال نتعرض إلى مسألة جديرة بالبحث والتأمل يؤطرها السؤال الآتي: هل يعدّ التجنس بجنسية دولة كافرة، من غير ضرورة أو إكراه، حاجة مشروعة أم رغبة مرجوحة؟
لما كان الحكم الشرعي على طالب التجنس بجنسية دولة غير إسلامية مترجحا بين الكفر والردة، وبين الحرام البَيّن، وبين الإباحة كمل سبق بيانه في المقال الأول، فبَدَهي أن يوازيه تنوع مماثل لفتاوى العلماء في المسألة، وهو تنوع قد يندرج جزء منه في باب تحقيق مناط الخاص. ونظرا إلى كثرة الفتاوى، سننتقي منها طائفة بعينها، أي التي اعتبرت الحاجة كافية في الانتقال من حكم تحريم التجنس إلى إباحته، وشرَّعت هذا الفعل بناء على حاجيات معينة. وغايتنا من مقاربتها بالتحليل والمناقشة أن نبرز جانب التوسع غير المحمود في استعمال قاعدة الحاجة، أو الأخذ بمبدأ الحاجة الذي وقع في تلك الفتاوى. وسنقتصر على فتويان، وهما:
وجّهَ مُقَدّم برنامج “الشريعة والحياة” في قناة الجزيرة الفضائية سؤالا للدكتور يوسف القرضاوي مفاده: أن هؤلاء الذين يهاجرون إلى الغرب، فإن الكثير منهم يأخذ جنسية البلاد التي يعيشون فيها، وبعضهم يحرم هذا، فما رأي فضيلتكم في حصول المسلم على جنسية بلد غير مسلمة؟
فكان جوابه: “في بعض الأوقات، أصدر علماء المسلمين في تونس والجزائر وتلك البلاد فتوى تحريم الحصول على جنسية فرنسا (المحتلة لهم في ذلك الوقت)، وأن من يتجنس بجنسيتهم يكون كافراً باعتبار أن هذه خيانة لله والوطن (ومن يتولهم منكم فهو منهم). هذه الفتوى في ذلك الوقت وبهذه الملابسات صحيحة، ولكن عندما يتغير الوضع والزمان والحال، فلا مانع من تجنس المسلم بجنسية البلد التي يعيش فيها، فالجنسية هذه أعطته القوة والصلابة والقدرة على المطالبة بحقوقه، وإبداء رأيه والتصويت في الانتخابات، دون أن يتنازل عن دينه، ويعايش من حوله بالمعروف ويحسن معاملتهم[1]“.
تستند هذه الفتوى إلى أن الحصول على جنسية دولة كافرة فرع من الإقامة فيها؛ ومسألة الإقامة أو “بقاء المسلم في ديار غير المسلمين ترجع إلى قاعدة التيسير، وتنزيل الحاجات والمشقات منزلة الضرورات[2]“، قال وهبة الزحيلي: “ما دمنا قد قلنا بجواز الإقامة في دار الكفر، فإنه يتفرع عنه جواز التجنس لأنه ما هو إلا لتنظيم العلاقة فهي تسهل لهم الأمور وتسهل أيضاً الاستفادة من خدماتهم[3]“.
ولنا مع هذين الفتويان ست وقفات، وهي كالآتي:
- صوب الشيخ يوسف القرضاوي تكفير علماء القرن الماضي لكل مَن حصل من المسلمين على جنسية الدولة الكافرة المحتلة لبلده وأقرّهم عليه؛ لأن ذلك يعتبر، حسب قوله، خيانة لله وللوطن. وكأن مناط الحكم بتكفير من تجنس في وقتها هو كونه خيانة، أو خيانة عظمى بالتعبير المعاصر، وهذا ليس صحيحا، فإن الخيانة العظمى مهما بلغ قبحها في الإسلام لا يمكن أن تكون من نواقضه إلا إذا صاحبها ولاء للكفر ونصرة لأهله ، بيد أن حصول المسلم على جنسية الدولة الكافرة هو ذاته مناط الحكم بتكفيره كما يظهر من فتاوى أولئك العلماء، ومنهم: الشيخ رشيد رضا صاحب تفسير المنار[4]، والشيخ يوسف الدجوي[5]، والشيخ محمد شاكر[6]، والشيخان علي محفوظ، ومحمد عبد العظيم الزرقاني[7]، وغير هؤلاء كثير.
- نفى الشيخ يوسف القرضاوي أن يكون هناك مانع من حصول المسلم على جنسية دولة كافرة، ولا يخفى ضعف هذا الكلام، فقد تقر عند تحرير حكم التجنس بجنسية دولة غير إسلامية أن الأصل في هذا الفعل هو المنع، ولا يمكن بحال أن ننتقل من حكم المنع والحظر دون موجب شرعي؛
- عدّ الشيخ يوسف القرضاوي المصالح التي يحققها الحاصل على جنسية الدولة غير الإسلامية، والتي يمكن أن نصنفها، تَنَزّلا، ضمن الحاجات الخاصة، إلا أنها لا ترقى بحال إلى أن تصير أعذارا كافية لإعلان المسلم عن التزامه بأحكام تخالف الشريعة ولو من حيث الظاهر، فإن تحريم هذا الفعل من باب تحريم المقاصد لا تحريم الوسائل، أو هو حرام لذاته لا لغيره، والحاجة لا تقوى أن ترفع هذا النوع من التحريم، فإن ذلك من خصائص الضرورة؛
- أشار الشيخ يوسف القرضاوي إلى أن هذا المتجنس بجنسية دولة كافرة يكون في مأمن من أن يتنازل عن دينه حينما يطالب بحقوقه المادية أو المعنوية عند إقامته فيها، وأرى أن في هذا التصور مغالطة كبيرة، يفضحها المبدأ والواقع؛
– أما المبدأ، فبمجرد إقرار المسلم بنظام لا يعترف بحاكمية الله، واستعداده للخضوع لحاكمية البشر، سواء خضع له بالفعل أو لم يخضع هو نفسه، فإن ذلك يعدّ تنازلا عن دينه، ويُظهره بمظهر الذلة والصغار؛ ولا يمكن لأحد أن يدعي أن التجنس بجنسية دولة كافرة يعطي العزة للمسلمين والإسلام؛
– وأما الواقع، فمن قبيل حقيقة أمريكا التي كذبت أحلام المتفائلين بفضائل الانضواء تحت راية دولة غير إسلامية، وحمايتها لمنتج الفيلم الذي استُهزئ فيه بالرسول الكريم بدعوى حرية التعبير التي هي قيمة يحرص عليها المجتمع الأمريكي. ونظيره وقع في فرنسا والنرويج والدنمارك وغيرها من الدول الغربية، وما استطاعت جنسية المتجنسين أن تغير من الأمر شيئا، بل ذهبت فرنسا إلى سن قانون يمنع المسلمات الفرنسيات وغير الفرنسيات من ولوج المؤسسات التعليمية بالحجاب، فكيف يقال بعد هذا الإجراء إن دين أصحاب الجنسية في مأمن؟
- إن ادعاء كون التجنس بجنسية الدول غير الإسلامية فرعا من الإقامة فيها هو ادعاء باطل، لأن من شروط الحصول على جنسية تلك الدول أن يقيم المتجنس أكثر من خمس سنوات فيها، وفي بعضها، كالنمسا مثلا، أكثر من عشر سنوات، فالإقامة في تلك الدول متقدمة على طلب الحصول على جنسيتها، ولهذا يمكن الاكتفاء بالإقامة وفق الضوابط الشرعية دون الالتجاء إلى التجنس الذي ظاهره كفر ومروق من الدين؛
وأخيرا، إذا استثنينا أحوال الضرورة أو الإكراه التي تبيح للمسلم أن يتجنس بجنسية دولة كافرة، فلم يبق بعد ذلك من الأحوال سوى ما يخدم مصالح المتجنس الحاجية أو التحسينية. وإذا وازنا بين هذه المصالح وبين المفاسد التي تترتب عن الحصول على جنسية الدولة الكافرة، فلا يمكن القول بالجواز، لأن التجنس سبب في الإقامة الدائمة في بلاد الكفر وهو أمر غير مشروع بإطلاق، كما أنه سيؤثر سلبا في الذرية تحت ظل مبادئ العلمانية وثقافة الإباحية المطلقة وحرية المعتقد التي تدعو إليها تلك الدولة غير الإسلامية المانحة للجنسية عبر مناهجها التعلمية ووسائل الإعلام، وقد ينتج عنه نفور الأبناء من الانتماء إلى وطن الآباء الأصلي وهويته المرتبطة بالدين الإسلامي، وهذا أمر مشاهد للأسف الشديد، ولا يبعد أن تكون الدولة التي منحت جنسيتها للمسلم تراهن على الجيل الثاني أو الثالث ليكون خالصاً لها ولقيمها، وكفى بهذا مفسدة تقودنا إلى القول بمنع التجنس.
[1]– الدكتور يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة الفضائية.
[2]– صناعة الفتوى وفقه الأقليات لعبد الله بن بيه، ص 284.
[3]– فقه الأقليات المسلمة، للدكتور وهبة الزحيلي، ص 608، نقل بواسطة: كتاب “الهجرة إلى بلاد غير المسلمين” لعماد بن عامر ص 293، وكتاب “قواعد الاندماج الإيجابي” لحسين تلاوة، ص 9.
[4]– قال الشيخ رشيد رضا صاحب تفسير المنار: “إذا كان الحال كما ذكر في هذا السؤال، فلا خلاف بين المسلمين في أن قبول الجنسية ردة صريحة وخروج من الملة الإسلامية، حتى إن الاستفتاء فيها يُعد غريبا في مثل البلاد التونسية، التي يظن أن عوامها لا يجهلون حكم ما في السؤال من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة. ولعل المراد من الاستفتاء إعلام الجمهور معنى هذه الجنسية، وما تشتمل عليه من الأمور المذكورة المنافية للإسلام نفسه، لا للسياسة الإسلامية التي بدئ السؤال بذكر غوائلها فقط”. نقل بواسطة مجلة المجمع الفقه الإسلامي، العدد الرابع، 1409 / 1989، ص146.
[5]– قال الشيخ يوسف الدجوي، من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف: “إن التجنس بالجنسية الفرنسية، والتزام ما عليه الفرنسيون في كل شيء حتى الأنكحة والمواريث … ومحاربة المسلمين والانضمام إلى صفوف أعدائهم معناه الانسلاخ من جميع شرائع الإسلام ومبايعة أعدائه… على أننا لو نزلنا غاية التنزل فلسنا نشك في أن هؤلاء المتجنسين بالجنسية الفرنسية على أبواب الكفر، وقد سلكوا أقرب طريق إليه”. المرجع نفسه، ص 159 – 160.
[6]– كان من هيئة كبار العلماء بمصر.
[7]– أصدرا معاً فتوى في المسألة ووقعا عليها، ومن بين ما جاء في نص الفتوى: “إن التجنس بجنسية أمة غير مسلمة على نحو ما في السؤال هو تعاقد على نبذ أحكام الإسلام عن رضا واختيار، واستحلالا بعض ما حرم الله، وتحريماً لبعض ما أحل الله، والتزاما لقوانين أخرى يقول الإسلام ببطلانها، وينادي بفسادها، ولا شك أن شيئا واحدا من ذلك لا يمكن تفسيره إلا بالردة، ولا ينطبق عليه إلا حكم إلا حكم الردة، فما بالك بهذه الأربعة مجتمعة في ذلك التجنس الممقوت؟”. المرجع نفسه، ص166.