حقيقة البدعة الشرعية واضطراب الدكتور في تعريفها
نشرت مجلة المجلس في عددها الأول مقالا انتصر فيه الدكتور أحمد الخياطي إلى القول بمشروعية القراءة الجماعية للقرآن وطريقة “الحزب الراتب”، وإن المآخذ التي تؤخذ على الدكتور في مقاله هذا عديدة، من بينها قولٌ عزاه إلى العز بن عبد السلام، أن (البدعة “شرعا” هي: كل فعل لم يعهد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم)(1).
فقوله (كل فعل)؛ يشمل العادات والعبادات والمعاملات، الشيء الذي يجعل هذا التعريف لا يصلح أن يكون ضابطا لتحديد مفهوم البدعة الشرعية، لتداخل ما هو شرعي بما هو لغوي في التعريف، مما يسقطه من الاعتبار لتطرق الاضطراب إليه، إذ من شرط التعريف الكشف عن حقيقة المعرَّف به، مع منع دخول غيره فيه، وهذا ما ليس بمتحقق في تعريف الدكتور.
ومما يؤكد هذا الخلل قوله: (وإذا حكمنا بأنه بدعة -يريد القراءة الجماعية للقرآن-، فهو بدعة بالمعنى اللغوي فقط، لا بالمعنى الشرعي، وعلى فرض القول بالمعنى الأخير، فالبدعة الشرعية تعتريها الأحكام الخمسة، والتي يترجح من تلك الخمسة في مثل هذه النازلة، هو القول بأنها -أي القراءة الجماعية للقرآن- بدعة واجبة، أو مستحبة)(2).
فالقراءة الجماعية للقرآن فعل محدث، لم يعهد فعله في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك هو -عند الدكتور- مشروع على التقديرين؛ سواء اعتبر بدعة لغوية أو بدعة شرعية! مما يجعل تقسيم الدكتور البدعة إلى لغوية وشرعية تقسيما وهميا أو ضربا من العبث!
والذي أوقع الدكتور في هذا الاضطراب هو تصرفه السيئ بإضافته كلمة “شرعا” إلى كلام العز بن عبد السلام، وهي غير موجودة في الأصل، ظنا منه بفطنة ساذجة أن إضافتها غير مؤثرة. وسياق الكلام يشعر ببطلان زيادة كلمة “شرعا” من حيث معناه.
وإليك تعريف العز بن عبد السلام بلفظه: )البدعة فعل ما لم يعهد في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم..)(3)، فتعريف العز -رحمه الله- مع اقتصاره على اللفظ المجرد للبدعة، هو تعريف جامع لأنواعها؛ فهو يشمل البدعة مطلقا؛ اللغوية والشرعية. وإضافة الدكتور لفظة “شرعا” مع احتفاظه بالتعريف نفسه، يجعل البدعة الشرعية تشمل البدعة الشرعية منها واللغوية. وهذا تحريف لكلام العز بن عبد السلام، لأن البدعة الشرعية لا تشمل إلا ما أحدث على وجه التعبد مما لم يأت به الشرع.
يقول الإمام الشاطبي: (البدعة: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية)(4). فبقوله “في الدين” تخرج البدعة اللغوية من هذا التعريف، فهي -أي البدعة الشرعية- كل فعل أو ترك في الدين أحدث بعد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وكلها ضلالة لقوله صلى الله عليه وسلم (كل بدعة ضلالة)(5).
أنواع البدعة اللغوية وأوجه الفرق بينها وبين البدعة الشرعية
عرّف الدكتور البدعة اللغوية بقوله: (“البدعة” لغة: هي الأمور المبتدعة الجديدة التي لم تكن معروفة..)(6).
واقتصار الدكتور على هذا الحد في تعريف البدعة اللغوية، لا يفي بتحرير محل النزاع في الموضوع؛ والذي هو: بيان متى يطلق لفظ البدعة على عمل تعبدي، بحيث يلحقه اسم البدعة دون حكمها. وهذا ما لا يمكن فهمه من هذا التعريف. وإثارة مثل مسألة “القراءة الجماعية للقرآن” تقتضي إعطاء رؤية شاملة حول البدعة اللغوية.
فالبدعة تطلق لغة على معان منها: ما هو من قبيل الاختراعات الصناعية والإبداعات العلمية في الطب والهندسة والمعمار.. وكل ما له علاقة بدنيا الناس، وهذا النوع ليس مرادا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في نهيه عن الإحداث والابتداع بقوله صلى الله عليه وسلم: “كل بدعة ضلالة”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”(7).
فقوله صلى الله عليه وسلم (في أمرنا) أي: في ديننا وشرعتنا، وإطلاق لفظ البدعة على هذا القسم لم يعد جاريا على لسان الناس، حيث غلب عليهم استعمال لفظ الابتكار والاختراع، أما لفظ البدعة فقد خص في استعمالهم بالبدعة الشرعية وهي البدعة في الدين.
وتطلق البدعة لغة على المصالح المرسلة، وهي تتعلق بما لا دخل له بالعبادات، ومجالها فيما يُعقل معناه، مما يحفظ به أمر ضروري أو يرفع به حرج عن الأمة، وضابطها انتفاء المقتضي لحدوثها في زمانه صلى الله عليه وسلم.
مثاله: جمع القرآن لما خشي الصحابة رضي الله عنهم ذهاب كثير من قرائه جرَّاء قتال يوم اليمامة، وكذا تضمين الصناع، وإنشاء الدواوين في عهد عمر رضي الله عنه، وبناء المدارس، وإنشاء الوزارات، وسن القوانين التي لا تصادم الشريعة، كبعض ما يشتمل عليه قانون السير، وقانون العمل، وقانون السكن، ..إلى غيرها من المسائل المستجدة التي تندرج تحت قاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) وقاعدة: (درء المفاسد، وجلب المصالح).. وهذا كله فيما ارتباطه بالمعاملات ولا علاقة له بالعبادات لأنها غير معقولة المعنى.
وتطلق البدعة لغة على عمل تعبدي أحدث بعد ترك العمل به، وذلك إما لعارض منع من مزاولته في زمن النبوة، أو لهجران بسبب اندراس الدين وفشو الجهل بالسنة واستهانة الناس بتطبيقها، كسنة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، وسد الفُرج، وحذو المناكب، وإعفاء اللحى التي هي سنة المصطفى..
فللاصطلاح على عمل تعبدي بأنه بدعة لغوية وليس بدعة شرعية، يشترط فيه ألا يكون ذاك العمل بدعة أصلا بل سنة. وهذا هو ما يدل عليه فعل عمر رضي الله عنه(8)، حين جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح، فقيام رمضان فعله الرسول صلى الله عليه وسلم واقتدى به بعض أصحابه ليالي متتاليات، وقد صرح صلى الله عليه وسلم أنه ما ترك الاجتماع على القيام إلا خشية أن تفرض على أصحابه رضي الله عنهم. وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: “قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم”(9)، فخشية الافتراض كانت علة مانعة من قيامه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه.
وكما هو معلوم عند الأصوليين أن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، ومتى انتفى المانع عاد الحكم إلى ما كان عليه؛ فبموت الرسول صلى الله عليه وسلم زالت خشية الافتراض، وقام المقتضي لجمع الناس ثانية على قيام رمضان دون خوف أو خشية.
وهذا هو ما فعله عمر رضي الله عنه، وجملة القول: أن صلاة التراويح سنة ثابتة بلا منازع، وأن عمر رضي الله عنه أحيا سنة تُركت لأسباب زالت في زمانه.
وتنزيل “القراءة الجماعية للقرآن، وطريقة الحزب الراتب” منزلة “صلاة التراويح” في الحكم، هو تنزيل باطل بعيد عن الأصول، والتسوية بينهما، تسوية بين الحق والباطل، لأن القراءة الجماعية للقرآن لا ينطبق عليها من الشرعية ما ينطبق على صلاة التراويح، والاستدلال على جوازها بفعل عمر رضي الله عنه نوع من التحريف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مقال: القراءة الجماعية للقرآن وطريقة “الحزب الراتب”. مجلة المجلس، العدد الأول ص: 66.
2- المرجع نفسه ص: 67.
3- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز بن عبد السلام.
4- الاعتصام للإمام الشاطبي 1/43.
5 انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم:2735.
6- مقال: القراءة الجماعية للقرآن وطريقة “الحزب الراتب”. مجلة المجلس، العدد الأول ص:66.
7- متفق عليه.
8- وليس على ما أراد الدكتور التشويش به على القارئ، انظر المقال الثاني محور”سوء فهم الدكتور لكلام الشافعي”.
9- صحيح البخاري، الحديث رقم 1061.
10- مقال: القراءة الجماعية للقرآن وطريقة “الحزب الراتب”. مجلة المجلس، العدد الأول ص67.