قد لا نجانب الصواب إذا ما اعتبرنا أن بعض الحقائق الإنسانية تتأثر بشكل أو بآخر مع الصيرورة التاريخية للأمم وقضية تقلب دولة أيامها بين مظاهر العزة والقوة ومآسي الضعف والوهن، فهي أي هذه الحقائق تكون بمنزلة الغدد اللمفاوية من الجسد السليم لكنها سرعان ما تتحول والحال أن الجسد غزته جيوش المرض إلى خلايا سرطانية تعجل بهلاكه في ردهة من زمن قياسي، والمغاربة أهل الإسلام كانوا ولا يزالون يحفظون بعضا من هذه المسلمات التاريخية حفظهم للآية من كتاب ربنا عز وجل، ولذلك فالمستفهم مثلا عن سكان المغرب الأصليون لا يكاد يسمع ترددا ولا تلعثما أيًّا كان المجيب ، فالإجابة جاهزة لينة طيعة يرددها الجميع: “سكان المغرب الأصليون هم البرابرة أبناء “مازيغ” قدموا إليه من اليمن عن طريق الحبشة..”.
لكن المغاربة وهم يجيبون عن هذا النوع من الاستفهام الاجتراري لم يكونوا مدفوعين متأثرين بأيديولوجية ما، أو خائفين من جهة ما، كما لم يكن يخطر ببال أحد منهم أن تتحول هذه الجملة التاريخية إلى إسفين مسموم، ونقع ملغوم، يلوث مادة شرابنا المختلف الألوان فيصيب جسد هذا الوطن العزيز وسائر بلاد المسلمين بالتفكك والانشطار، هذا الجسد الذي طالما ضم في حُضنه الأخضر واليابس والغث والسمين، وتآلفت عناصره على مرّ الأزمان، بانية قوة حمت أطراف هذا الصرح وذادت عند الثغور عن حمى المكتسب والمقدس..
لم يكن ليخطر ببال أسلافنا في حربهم ضد الغزاة حين همّوا بإقامة الظهير البربري للتفريق بين أطياف الشعب المغربي محاولين إحياء نعرات الجاهلية.. أن يوجد من جيل الأحفاد من سيتولى كبر الدفاع عن هذا الظهير البائد وبألفاظ ملؤها الحزن والأسف، بل يصرح وبكل وقاحة أنه كان من الضروري أن يطبق مبدأ هذا الظهير، معللا ذلك بكون الأمازيغ كانت لهم أعرافهم، فكان لابد من الاحتفاظ بها، بل ووصلت به الصفاقة أن يتهم من وقفوا حجرة عثرة أمام إمكانية التنفيذ بالخيانة، وبإخلاص شديد كان زعيم الحزب “التحريضي” حريصا على التأكيد لجوقة الحضور وحتى لا ينسوا أصولهم، وتطبيقا لكلمة “ذكِّره” لسنا عربا ولكن مسلمون..
وتتوالى الأحداث والأمة تعيش ظروفها الحرجة، والمسلمون يتساقطون كأوراق الشجر زمن الخريف، أعراضهم مستباحة وخيراتهم ملك يمين لكل مغتصب وراتع، وعلى عتبة أسوارنا التاريخية الشاهدة على مجد حضارة الأسلاف والمسترجِعة على زمن التشييد الذي وأدته مشاريع التبعية وقوانين التفرقة ومظاهر الانبطاح والتجويع، وإكراهات التطويع التي سامنا إياها فراعنة الصليبية وأخذتها عنهم بالتواتر سمعا وطاعة أجيال مستنسخة، قواصم من أرحام عواصم، وكسور من صلب مدنية القشور…
وتتوالى الأحداث ويقوم إخواننا الأمازيغ المسلمون بتأسيس جمعيتين للصداقة الأمازيغية-الصهيونية الأولى بمنطقة سوس والثانية بالريف، وفي تحد سافر مكشوف يسافر أحد أعضاء التأسيس بمعية زعيم الحزب الأمازيغي الديمقراطي في زيارة خاطفة إلى أرض فلسطين المحتلة، ليشنف آذان المحتلين الصهاينة بكلام من قبيل اعتبار المشكلة الفلسطينية مشكلة “عربية-إسرائيلية”، وأن العرب ما هم إلا غزاة لأرض المغرب، وعليه فقد آن الأوان للعمل الجاد من أجل تصحيح التاريخ وبناء الذاكرة المشتركة مع اليهود، هذه الذاكرة التي صار لها بين عشية وضحاها وعن طريق قفزة “ابستمولوجية” ضاربة الأطناب في الوراء التاريخي: لغة وحرفا تفنيغيا، وتقويما أمازيغيا خاصا، وحضارة ومصطلحات جغرافية تؤثث مفتاح خريطة الأرض المغتصبة وفضاء “تمازغا” السليب، ووقائع بل وخرافات مأساوية يشتركون من خلالها مع ما بات يعرف في الاصطلاح “الانتربولوجي” بـ”شعوب الأندجين والأوطوكطون”..
وهكذا وبعد هذه العناوين المختزلة لقضايا القوم وانشغالات “كونغريسهم” العالمي، يحق لنا أن نقف لنطرح سؤالا من أجل الفهم والفهم البريء فقط: هل لهذه الردة وهذه الادعاءات والمزاعم الفينيقية علاقة بواقع الأمة الإسلامية، ذلك الواقع الذي لم يتخلص بعد من غبار الذل وما علق بالجسم المريض، بعد انهيار حكم المسلمين وسحب بساط التمكين من تحت أقدامهم، وتمزق لوائهم إلى بيارق وأطياف وأوزاع، تنميهم قوميات يوثرون الانتساب إليها على نسب الإسلام العظيم؟
وإننا إذ نسمي القوم بالفينيقيين، لا نسعى إلى استئصال شأفة التاريخ والهوية كما قد يدعي هؤلاء النزوعيون الجدد، أو نؤسس هذه التسمية على أسس عنصرية استلابية، كما قد تزعم منابرهم الناضحة بالملاسنات والقذف المباشر للرافضين لهذا المشروع الجائر والغرور الكاذب، بل إن هذه التسمية تجد مسوغها في كوننا ونحن نواجه هؤلاء ومن وراءهم نسعى إلى التمييز بين القاصي الذي أكله الذئب، وبين إخوان لنا أمازيغ يحفظون كتاب رب الأرباب ويذودون عن سنة سيد الخلق، ويحملون همَّ الأمة، أشراف تشدُّ إليهم الرحال طلبا للعلم والمعرفة والتفقه في الدين وعلوم لغة الضاد، أحرار حملوا البنادق وخاضوا حرب التحرير، ووجهوا فوهات المدافع إلى نحور الغزاة في جبال الأطلس وجبال الريف الشماء، أولئك هم البرابرة حقا أحفاد القائد طارق بن زياد رحمه الله، ذلك الأمازيغي الفصيح اللسان صاحب خطبة “العدو أمامكم والبحر من ورائكم”، والذي كان له الفضل في تمدين بلاد الإسبان ونشر حضارة الإسلام بين ربوعها.
وحتى لا تزيغ بنا دروب الكلمة وحتى لا ننسى أن نتفرس في ملامح هذه الردة التي دعا إليها القوم، وحرض الغرب على وجودها، وبارك في ظهورها، وأن نغلغل الرؤيا في الغبش الذي اكتنف ميلادها وصاحب استهلالها، معتقدين أننا لن نأتي ببدع من القول، بل حسبنا قدر الإمكان أن نرد الأمور إلى نصابها، وأن ندمغ الباطل بتراث الحق، وأن ندفع الكذب والبهتان بنور الحجة والبرهان، وأول الحق قول الله عز وجل: “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ”، وأول مقتضيات إقامة هذا الحق امتثال أمر الله سبحانه: “وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ”.
ولأن بعضا من سكان الأرض يبغونها عوجا ويهمهم أن تكون الأمة مشتتة الأوصال يضرب بعضها رقاب بعض، ولأنهم يعلمون أن ضياع هذه الوحدة هو العون الأكبر لهم على بسط نفوذهم، وغرس خناجرهم، وإعمال معاول هدمهم في صرح حضارتنا العريقة، فإن أيديهم سخية وصدورهم رحبة أمام أصحاب المشاريع التجزيئية، الذين أخذوا على عاتقهم الكلام بغير تفويض ولا وكالة عن شجرة الأركان وجبال الأطلس والريف.. فهم سكان المغرب الأصليون وما دونهم فهم الوافدون الغزاة المحتلون، والحقيقة أننا لا نروم استلاب القوم هذه الصفة، لكننا نفتح القوس لنزيح الشبهة عنها، ذلك أن التعريف المسكوك الذي يقر للبرابرة بأنهم سكان المغرب الأصليون قد فقد براءته واتخذ منحى قبلي تجزيئي خطير من شأنه أن يدخل أطياف الأمة في أتون الفتنة والتطاحن العرقي، بينما نجد أننا كجيل حينما كنا نردد هذا التعريف داخل الفصل المدرسي أو خارجه كنا نضعه في سياقه الزمني الذي يحيل على أقدم من استوطن أرض المغرب، ولذلك كنا نستعيض عن هذا اللفظ بصفات أخرى كالأقدمون والأوائل، فالأصلي إذن يجب أن يفهم في إطار زمني لا غير وعليه فهذا اللفظ لا ينهض حجة لمن يخندقون الأمازيغ في خانة شعوب “الأندجين والأوطوكطون” لأسباب نجملها في أن شعوب الأندجين هي شعوب أصلية تعرضت للغزو والإبادة من طرف أجناس وافدة، وعليه فالحالة المغربية مثلا لا تتجاوز هذا المفهوم ذلك أن العقد التأسيسي الأول للدولة هو عقد شرعي، عقد بيعة بين رجل أعزل قدم من الشرق مع مجموعة قبائل بربرية دانت له بالولاء لاعتبارات دينية على رأسها أن هذا القادم هو من آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام.
أما عند إعمال مبدأ المقارنة فنجد أن الأمازيغ المغاربة تمتعوا على مر العصور بما تمتعت به باقي مكونات الوطن حقا وواجبا بخلاف وضعية الهنود الحمر، وأبورجين أستراليا والاكسيمو وأقزام إفريقيا، فهؤلاء الأجناس عانوا التهميش والإقصاء والإبادة وهم إلى اليوم لا يزالون معزولين عن المدينة الحديثة يشاركون الحيوانات المفترسة ظروف العيش القاسية بوسائل بدائية، والعجيب الغريب أن هؤلاء النزوعيون يتلقون الدعم ويأخذون الإشارة والبشارة من عين الغزاة الذين ساموا الهنود الحمر و.. ألوانا من الإقصاء وصنوفا من الضنك، فيا ليت شعري لو أنك بين ظهرانينا يا “طارق” حتى ترى اعتساف القوم وقد صارت لهجتهم لغة يرسمونها بحروف فينيقية لا تمت لتاريخنا بصلة متعمدين حتى على مستوى حركة الإبهام والسبابة حَبْرَ هذه الأبجدية من اليسار إلى اليمين نكاية بالحرف العربي الأصيل، فيا ليتك بيننا يا ابن زياد وإخواننا الأمازيغ قد استعاضوا عن تقويم الهجرة بتقويم يعتمد رواية شبيهة بخرافة “الغول”، أسطورة 950 ق.م، أسطورة انتصار الملك “شيشونغ” على فرعون رمسيس الثاني!! وإننا إذ نخوض دروب هذه الكلمة لا نخوضها انتصارا لعربية الجاهلي لأننا كنا يومها على شر وجاهلية بل نخوضها دفاعا عن المستهدف من القصف عروبة صحائف الوحي ومنارات الحق، ولذلك فإن كان غيرنا مسلما لكنه ليس عربيا فنحن عرب أعزنا الله بالإسلام فلم نجعل خيره حكرا علينا، بل أفضنا من كأس نعمته على الناس وكنا وسنبقى أعلم الناس بالحق وأرحمهم بالخلق، نأتي بغيرنا في أغلال ليدخلوا الجنة بسلام فليشكر غيرنا نعمة الانتساب فإن الشكر عربون زيادة، والجحود نذير سلب وعطب وانتكاس.