الوالدان، هما سبب وجود الإنسان بعد الله تعالى، ولهما عليه غاية المنة والإحسان، الوالد بالإنفاق، والوالدة بالولادة والإشفاق.
يقول حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “ثلاث آيات مقرونات بثلاث، ولا تقبل واحدة بغير قرينتها..
“وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ” التغابن، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه.
“وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ” البقرة، فمن صلى ولم يزكِّ لم يقبل منه.
“أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك” لقمان، فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه”.
وبرهما معناه: “الإحسان إليهما، والتعطف عليهما، والرفق بهما، والرعاية لأحوالهما، وعدم الإساءة إليهما، وإكرام صديقهما من بعدهما” (بصائر التمييز للفيروزابادي 2/211).
بل برهما والإحسان إليهما من المواثيق التي أخذت على أهل الكتاب من قبلنا، قال تعالى: “وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً” (البقرة).
ولنا في أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أسوة حسنة، فهذا شيخ المرسلين نوح عليه السلام يدعو فيقول: “رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَاب” ابراهيم.
وهذا نبي الله إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام يدعو أباه إلى دعوة التوحيد الخالص، ويترقق ويتودد له مع كفره، ويقول: “يا أبَتِ.. يا أبَتِ”، فلما تأكد إبراهيم من تمام إعراض والده عن دعوة الحق قال: “سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً” مريم.
وهذا نبي الله إسماعيل عليه السلام يقول لأبيه -وقد همّ بذبحه-: “يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ” الصافات.
وهذا نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام كان: “بَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً” مريم.
ولما بلغ نبيُّ الله يوسف عليه السلام أعلى الدرجات، وأرقى المكانات، ومكن الله له في الأرض “رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْش” يوسف.
أما عيسى عليه السلام فقال وهو لا يزال في المهد: “وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّا” مريم.
هؤلاء هم الأصفياء الأنقياء الأتقياء الذين اصطفاهم الله تعالى لرسالته، وجعلهم أسوة لخلقه، أنظر أيها القارئ الكريم كيف كان برُّهم وإحسانهم بآبائهم حتى وإن كانوا كفارا.
لقد أوجب العليم الحكيم البر بالوالدين وأمر بمصاحبتهما بالمعروف وإن دعوا إلى الكفر بالله، قال تعالى: “وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا”.
فإذا أمر الله تعالى بمصاحبة هذين الوالدين بالمعروف مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدَهما به -وهو الإشراك بالله-، فما الظن بالوالدين المسلمين سيما إن كانا صالحين، تالله إن حقهما لمن أشد الحقوق وآكدها، وإن القيام به على وجهه لمن أعظم الأمور وأجلها، والموفق من هدي إليه، والمحروم كل المحروم من صُرف عنه.
لقد بلغ من تأكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حق الوالدين أن جعله مقدماً على الجهاد في سبيل الله.
ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: “الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله”.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل استأذنه في الجهاد: “أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد” (رواه البخاري).
وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد” (رواه الترمذي وصححه ابن حبان والألباني).
وعن معاوية بن جاهمة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرسول الله: أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: “هل لك أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها، فإن الجنة تحت رجليها” (رواه النسائي وابن ماجه بإسناد لا بأس به).
فبر الوالدين واجب وفريضة على الأبناء، وفي برهما أجر كبير وثواب عظيم، وهو من أفضل الأعمال والقربات، وحقهما هو الحق الثالث بعد حق الله تعالى وحق نبيه صلى الله عليه وسلم، وبرهما مقدم على برِّ غيرهما من الناس، سواءً الأولاد أو الزوجة أو الأصدقاء أو الأقرباء.. إذ برهما من أعظم القربات وأجل الطاعات، وبه تتنزل الرحمات وتكشف الكربات.
قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: “رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة” مسلم. (رغم أنف: هذا كناية عن الذل، كأنه لصق بالرغام وهو التراب هواناً).