أدرك أعداء الإسلام من خلال المعارك الطويلة التي خاضوها ضد المسلمين أن دعوة الإسلام بما فيها من عقيدة التوحيد الخالص، والولاء للمسلمين والبراء من سواهم، والجهاد في سبيل الله، وقتال الصائل المعتدي على الديار والحرمات، هي المحرك الأول الذي أقض مضجعهم، ولم يمكنهم من الاستقرار في بلاد المسلمين.
واستيقن الغرب أن المعركة الحقيقية ليست مع المسلمين، وإنما هي مع عقيدتهم وشريعتهم، وأن ميدانها ليس هو جسد المسلم، وإنما قلبه وعقله وفكره، وأدركوا أن القلب مادام سليما فإن الجسد لن يهدأ، وإن أثقلته الجراح وكبلته القيود.
من هنا كان لا بد من وضع خطة محكمة يعمل بموجبها على تهوين الدين في نفوس المسلمين، وإبعادهم عنه، أو إبعاده عنهم، حتى يصير غريبا بين أهله وفي ديارهم، وقد ساهم في ذلك جيش كبير من المستشرقين (كماسنيون وجولدزيهر وغيرهم) الذين درسوا الإسلام خدمة للاستعمار/الاحتلال، حتى يتوصلوا إلى نقاط الضعف حسب تصورهم التي يمكن من خلالها تنفيذ خطتهم التي تهدف إلى إحداث تغيرات جوهرية في العقيدة والشريعة، وفي حركة الحياة اليومية، يكون من شأنها إفساد الدين، وإزالة الحواجز النفسية بين المسلمين وغيرهم، وتزيين الفسق والفجور والمعاصي والإعانة عليها، وإخراج المرأة من بيتها متكشفة متبرجة تحقيقا للمزيد من الفتك بمنظومة الأخلاق، بزعم المساهمة في التنمية وبناء المجتمع، على أن يجري كل ذلك على أيدي المسلمين أنفسهم، وتحت اسم من الأسماء التي يمكن قبولها ورواجها بين المسلمين: كالإصلاح مثلا، أو الاجتهاد والتجديد، أو التنوير والتحديث.
فانبرى العلمانيون والمستغربون والمأجورون إلى الترويج لمفهوم التجديد العصري وإعادة قراءة النصوص الشرعية قراءة جديدة تتلاءم وحاجيات العصر، فتعددت الكتب والمقالات، والجرائد والمجلات التي تخدم هذا الطرح، وتحارب في الوقت نفسه المنهج السلفي الداعي إلى التمسك بالكتاب والسنة وفق سلف الأمة.
وفيما يلي نورد بعض الملامح البارزة لدعاة هذا المنهج الرامي إلى تحريف الدين وتشويهه، نذكر منها:
1- تقدير العقل تقديرا كبيرا
حتى يتجاوز حده فيعارضون به الشرع، فإذا دل العقل عندهم على شيء كان هو المقدم، وما خالف العقل عندهم حقه التأخير ولو كان من نصوص الشريعة الصحيحة الصريحة، ومن هذا الباب تجدهم يتشككون في معجزة الأنبياء، ويؤولونها بما يخرجها عن ظاهرها، وكذلك تأويلهم للغيبيات: كالجن والشياطين تأويلا يساوي الإنكار، ورد أحاديث أشراط الساعة أو تأويلها، ونحو ذلك من الأمور التي يظنونها مخالفة للعقل، وليس في ذلك مخالفة للعقل، لأن معنى مخالفة العقل أن تقام الأدلة العقلية على بطلان تلك الأمور ومخالفتها للعقل، وليس عندهم أدلة على ذلك، كل ما عندهم في ذلك أنهم لا يقدرون على إثباتها بالعقل، فجعلوا عدم القدرة على الإثبات دليلا على عدم ثبوتها في الواقع.
2- العناية الزائدة عن الحد بالمصالح
حتى تجعل المصالح دليلا شرعيا مستقلا بذاته تعارض به النصوص الشرعية، فيجعلون مطلق المصلحة أصلا يفرِّعون عليه، والتعامل مع المصلحة بدون قيود هو الذي يساعد في ترويج القيم العصرية المخالفة للشريعة، فهم يرون مثلا من المصلحة اتفاق الناس ونبذ التعصب فيما بينهم، فيحملهم ذلك على الدعوة إلى وحدة الأديان، أو على الأقل إلغاء أحكام الولاء والبراء التي تضبط التعامل مع الكفار والمشركين، والنظر إلى الناس كلهم نظرة واحدة لا فرق في ذلك بين موحد وبين مشرك، وأن هذه الأمور تترك إلى الآخرة، وأما الدنيا فالتعامل فيها إنما يكون من منطلق الإنسانية فقط، ولذا نجد كتابات كثيرة تتحدث عن الآخر (غير المسلم) وتطالب بقبوله وإذابته في مجتمع المسلمين، وأنه لا يجب أبدا استبعاد المشركين، بل ينبغي أن نبحث عما يجمع بيننا وبينهم، ومن هذا المنطلق أيضا نجدهم يدعون إلى الانفتاح على حضارة الآخر، ليس من حيث المنجز التقني فقط ولكن من حيث الأفكار والقيم والمؤسسات الاجتماعية المعبرة عنها في صورتها الثقافية العامة من حيث العادات والتقاليد والأعراف.
فالأحكام تابعة للمصالح، ومن هنا يعمدون إلى تغيير الشريعة بتغير المصالح، ومن ثم فإن المصالح المتجددة تصلح لنسخ الأحكام السابقة التي لا تتلاءم معها.
3- تقديم الاجتهاد المقاصدي على الاجتهاد الشرعي
بغرض التفلت من الأحكام الشرعية الواضحة، فتراهم يستنبطون من الحكم الشرعي مقصدا ويقولون هذا هو المقصد من تشريع ذلك الحكم، والمطلوب أولا هو تحقيق المقصد، وأما الحكم الوارد في ذلك فما هو إلا طريق من طرق تحقيق المقصد، وعليه فإنهم ليسوا مطالبين بتحقيق الحكم تفصيلا وإنما يلزمهم من ذلك تحقيق المقصد فقط، فيجعلون المقصد الذي استنبطوه هادما للحكم الأصلي، وهذا لا شك ضلال في الفهم وخبل في العقل.
فينظر بعضهم مثلا إلى أن ارتداء المرأة للحجاب المقصد منه حصول العفة وليس خصوص الحجاب، فإذا أمكن تحقيقه بغير ذلك فلا يلزم لُبس الحجاب.
ويقولون مثلا: إن الحدود وضعت كعقوبة زاجرة، وهذا هو المقصد، وليس المقصد العقوبة نفسها، فإذا تحققت العقوبة الزاجرة بالسجن مثلا لم يلزم إقامة الحدود.
وكل هذا وأمثاله إنما هو مسارعة في متابعة الغرب المعترض على الشريعة الإسلامية في هذه الأمور، فيعمدون إلى أي شيء يمكن من خلاله موافقتهم.
4- تعدد القراءات واختلافها
من الأمور التي يلجأ إليها دعاة التجديد العصري لتطويع الشريعة بحيث يمكن تغييرها وتطويرها عند الحاجة: الحديث عن تعددية القراءة، وأن النص له مدلولات تختلف باختلاف القراءة، وأن لكل أحد أن يقرأ النص بطريقته، وخاصة في ضوء المعارف العصرية، ثم يفهم بحسب ما تؤدي إليه قراءته.
فقد حرص الدكتور محمد شحرور مثلا على فتح ثغرة في فهم المسلمين للنص القطعي الثبوت القطعي الدلالة، وهو في هذا يلتقي مع عدد من الكتّاب الذين يركّزون على فتح هذه الثغرة في هذا الوقت من أمثال: عادل ضاهر، وحسين أحمد أمين، ونصر أبو زيد ومحمد سعيد العشماوي الخ..
فنصر أبو زيد تناول آيات صفات الله تعالى، وأحمد أمين تناول آيات الحدود، ومحمد سعيد العشماوي تناول آيات الحجاب والمرأة، وعادل ضاهر تناول النص القطعي الثبوت القطعي الدّلالة بشكل عام وضرورة فهمه فهماً جديداً مبايناً لكل الأفهام السابقة.
فالقراءة الجديدة للنصوص الشرعية التي يدعو إليها هؤلاء هي بالطبع ليست قراءة الصحابة أو التابعين أو الأئمة الأعلام، فإن قراءتهم -حسب العلمانيين- لم تظهر فيها المعاني النبيلة التي اكتشفوها، بل كانت غائبة في بطن التاريخ، ولذا فهي في حاجة إلى من يخرجها الآن، وهم بالطبع المجددون العصريون الذين يقومون بالتغيير المطلوب في الأحكام الشرعية.
5- تاريخية الشريعة
من الأشياء التي يدندن حولها أصحاب التجديد العصري ربط النصوص الشرعية وفهم العلماء لها بالتاريخ، فيجعلون ما ورد من ذلك مرتبطا بالتاريخ مفسرا به، فيجعلون قطع يد السارق مثلا إنما كان حلا لعدم وجود السجون في ذلك الزمان، ويجعلون الجهاد لرد عدوان المعتدين فقط، ويجعلون الحديث عن أهل الذمة مرتبطا بظروف الحرب التي نشأت بين المسلمين وغيرهم، وليست أحكاما عامة، ويجعلون هذه الأمور ونحوها مما (نشأت في سياقات تاريخية مرتكزة بالتأزم والصراعات السياسية، والحدة في التعامل مع المختلف الفكري والمذهبي والسياسي)، وهذا ولا شك ينتهي بأصحابه إلى جعل الشريعة خاصة أو صالحة لزمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما قرب منه من الزمن فقط، وأما ما تلا ذلك من العصور فلم تعد تصلح له الشريعة..
6- اختراع علل الأحكام
كثير من الأحكام معللة، وقد قال أهل العلم: إن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وانطلاقا من ذلك يعمد أهل التجديد العصري إلى اختراع علل للأحكام اختراعا من عند أنفسهم، حتى يوصلوا من ذلك إلى نفي الأحكام عند انتفاء علة وجودها تطبيقا للقاعدة السابقة، فيجعلون مثلا علة تحريم الربا أن القروض كانت في ذلك الوقت للفقراء بقصد العيش منها، لذلك حرمت لأنها قروض استهلاكية، أما القروض الإنتاجية التي يأخذها الأغنياء بقصد استثمارها فالعلة فيها غير متحققة، لذلك هي عندهم ليست حراما، ومن البين أن هذا الكلام القصد منه تسويغ النظام الرِّبوي العالمي الذي يسيطر عليه اليهود، لكن إذا تركنا ذلك فأين نجد تلك العلة المزعومة؟
إننا لا نجدها إلا في أذهانهن، أما في الشريعة فنجد الله تعالى يقول: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” البقرة، ثم يتوعدهم بقوله: “فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ” البقرة.
ثم من قال: إن القروض في ذلك الزمان كانت قروضا استهلاكية فقط، مع أن أهل مكة كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أهل زراعة، وكانت الربا عنهم داخلا فيما يقال عنه قرض استهلاكي وقرض إنتاجي.
7- تقليل شروط الاجتهاد
الاجتهاد في الدين يتطلب تحصيل عدة علوم متنوعة تمكن الحاصل عليها من الفهم الصحيح والاجتهاد فيما يتجدد من الأمور، وقد كان العلماء قديما لا يتصدرون للإفتاء والاجتهاد إلا بعد الوصول إلى درجة عالية من ذلك، وحتى يقرهم على ذلك من هم أسبق منهم علما، وذلك حفاظا على الدين من أن يعبث به الجاهلون أو أنصاف المتفقهين.
أما المجددون العصريون فيحاولون التقليل من هذه الشروط والأوصاف حتى يكون ذلك مسوغا لهم فيما يحاولونه من تغيير الشريعة، فليس المجدد عندهم العالم بالكتاب والسنة، العالم بلغة العرب التي هي لغة الكتاب والسنة، العالم بأصول الفقه والاستنباط، العالم بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، وإنما المجدد عندهم هو الشخص المستنير العقلاني المنفتح على الآخر الذي يتعامل مع النصوص بنظرة حضارية بعيدا عن التزمت والانغلاق الذي ينظر إلى المقاصد، ولا يقيد نفسه بالنصوص، والذي يسبح في فضاء العقل الواسع بعيدا عن الالتزام بمنهج الصحابة والتابعين وأئمة الدين.
تلك كانت بعض ملامح دعاة التجديد العصري ورواد القراءة الجديدة للنصوص الدينية، فمن وافقهم على أصولهم فهو العقلاني المستنير، المتنور المتفتح، المتمتع بقيم الإسلام التنويري، المدرك لمتغيرات الزمان والمكان، والثابت والمتحول، الفاهم للبيئة المحيطة به، المتعامل مع الآخر بأفق متسع.
ومن كان مخالفا له فهو: ظلامي متحجر متزمت، واقف مع حدود الألفاظ، ضيق العَطن، لا يفهم روح الشريعة، تغيب عنه مقاصدها وتستتر خلف النصوص، ليس له القدرة على الغوص في أعماق المعاني. (تجديد الخطاب الديني بين التأصيل والتحريف)
“مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ”، “سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ”.