اعلم رحمك الله أن فقه البيوع باب عظيم من أبواب العلم، ينبغي تعلمه ولا يسع المسلم جهله، ذلك أن المرء يغدو إما بائعا أو مشتريا، قلما ينفك عن ذلك، فإذا أهمل تعلم هذا الباب واقع الحرام، وجانب الكسب الطيب الحلال لا محالة، كما يشهد لذلك الواقع. ولا ريب أن المرء كلما كان كسبه طيبا كان من ربه أقرب، وبإجابة الدعاء أجدر، وكلما خبُث كسبه كان ن ربه أبعد فإن دعا لم يُعط ولم يُجب.
وقد عظمت حاجة الناس لهذا العلم في هذا الزمان بخاصة، حين ابتعدوا عن أنوار الوحي وهدي الرسالة، وصار تعاملهم بمنأى عما تقتضيه الديانة، ولا جَرَمَ أن ما بُلي به العالم اليوم من كساد المال وتراجع الاقتصاد سببه ما أحدث الناس من التعامل القائم على وجه الفساد، ومعصية رب العباد، كأكل الربا الذي جاء تحريمه في كل شريعة وكتاب، والذي هو محض الظلم والطغيان، فإنهم طلبوا رغد العيش وطيب المقام بمعصية الله. “والأصل في المعاصي أنها لا تكون سببا في نعم الله ورحمته” “بل إنها تزيل النعم وتُحِل النقم” “تزيل النعم الحاضرة وتقطع النعم الواصلة، فتزيل الحاصل وتقطع الواصل، فإن نعم الله ما حُفظ موجودها بمثل طاعته، ولا استُجلب مفقودها بمثل طاعته، فإن ما عنده لا يُنال إلا بطاعته وقد جعل الله سبحانه لكل شيء سببا وآفة، سببا يجلبه، وآفة تُبطله، فجعل أسباب نعمه الجالبة لها طاعته وآفاتها المانعة منها معصيته” .
ولا يفوت في هذا المقام التنويه بمن له السبق في باب البيوع دون سائر فقهاء الملة، وأئمتها الأعلام، و هو مالك بن أنس، ذلك الحبر العلم الهمام، فهو المقدم ومذهبه في ذلك أحسن المذاهب، كما نص عليه الإمام المحقق والناقد المدقق، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ قال في مجموع فتاويه: “إذا تبين ذلك فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب، الذي كان يُقال هو أفقه الناس في البيوع، كما كان يقال عطاء أفقه الناس في المناسك، وإبراهيم النخعي أفقههم في الصلاة، والحسن أجمعهم، ولهذا وافق أحمدُ كل واحد من التابعين في أغلب ما فَُضِّل فيه، لمن استقرأ ذلك من أجوبته، والإمام أحمد موافق لمالك في ذلك في الأغلب فإنهما يحرمان الربا، ويشددان فيه لما تقدم من شدة تحريمه، وعظم مفسدته، ويمنعان الاحتيال عليه بكل طريق، حتى يمنعا الذريعة المُفضية إليه، وإن لم تكن حيلة، وإن كان مالك يبالغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه، أو لا يقوله لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها” .
وقال في موضع آخر: “..وأما مالك فمذهبه أحسن المذاهب في هذا” .
وإنما جرى ذلكم التنبيه والتنويه لأجل بيان فضل ومزية الاشتغال بمذهب ذلك الإمام، وكذا العناية بما سطره الأصحاب وما تفرق من فتاويهم في بطون الكتب والأسفار.
ثم اعلم رحمك الله أن البيع في اللغة أخذ شيء وإعطاء شيء، وهو مأخوذ من الباع إذ أن كلا من المتبايعين يمد باعه -أي يده- إلى الآخر، وهو في الشرع معاوضة مال أو منفعة بمثل أحدهما.
والأصل في البيع الحل لقوله تعالى: “وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ” البقرة 275.
لكن ثمة أنواع من البيوع دلت دلائل الشرع على تحريمها، لذلك قسم العلماء البيوع إلى قسمين؛ مباحة و محرمة.
فأما البيوع المباحة فلا حصر لها، لذا توجهت عناية العلماء إلى بيان المحرمة منها لكونها محصورة معدودة، فأفردوها بالكلام في كتبهم الفقهية، وفق النصوص الشرعية، والضوابط المرعية، فأحيوا بذلك السنن المرضية، التي ارتضاها للناس رب البرية، وبصروهم سبل الهدى، وحذروهم طرق العمى والردى، فما أعظم أثرهم على الناس وما أسوأ أُثر الناس عليهم.
الأصول التي بنى عليها العلماء تحريم البيوع
قال ابن رشد المالكي رحمه الله: “وإذا اعتبرت الأسباب التي من قِبَلها ورد النهي الشرعي في البيوع، وهي أسباب الفساد العامة وجدت أربعة:
– أحدها: تحريم عين المبيع (كالخمر والميتة والأصنام ونحو ذلك).
– والثاني: الربا (أو ذرائعه).
– والثالث: الغرر (كنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الحصاة، وعن بيع الثمار حتى تُزهي وعن بيع السنبل حتى يَبْيَضّ، أو عن بيع العنب حتى يسود ونهيه عن بيع المضامين والملاقيح، وما شابه ذلك مما سيأتي تفصيله إن شاء الله في موضعه).
– والرابع: الشروط التي تؤول إلى أحد هذين -أي الربا و الغرر- أو لمجموعهما.
وأما التي ورد النهي فيها لأسباب من خارج فمنها الغش. ومنها الضرر (كالنهي أن يبيع الرجل على بيع أخيه وعن تلقي الركبان وعن الاحتكار ونحو ذلك).
ومنها ما كان رعاية لوقت العبادة وذلك إنما ورد في الشرع في وقت وجوب المشي إلى الجمعة” .
وإذ قد أثبتنا أسباب الفساد العامة للبيوع، فلنَصِر فيما يأتي إن شاء الله من المقالات إلى تفصيل ذلك وذكر ما يتعلق به من مسائل.