إن الواقع الأليم الذي يعيشه المسلمون اليوم, إنما وصلوا إليه نتيجة لتفريط أجيال متتابعة نشأت في بعد كبير عن الدين، فوُجد فيهم من يبيع دينه بعرض من الدنيا، وفيهم من يقبل الباطلَ ويستجيب له ولو على حساب شرف الأمة وعزها.
محنة ليست إلا ثمرة مُرَّة لقرون من التفريط أدَّى إلى سقوط بعض البلاد الإسلامية في أيدي الأعداء، وتسلُّط من لا يصلـُح على البعض الآخر، “وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ” (الأنعام:129).
إن ما يجري اليوم في غزة وقع أمثاله مرات ومرات والمسلمون في غفلة ساهون، لكنهم اليوم يعيشون الحدث بقلوب حية وأحاسيس مرهفة, وتلك إذن هي مقدمات التغيير، خاصة عندما يعرفون الولي من العدو، ذلك الأساس الذي يحاول الأعداء تمييعه, لقد عاش الناس أكثر من نصف قرن يتوهمون أن “النضال” إنما هو من أجل الأرض والوطن، في تنحية متعمدة للدين عن الصراع، وسعي حثيث من قبل الأعداء لإنجاح ما يسمى بحوار الأديان كي تصرف القضية عن وجهها الحقيقي، مروجين لفكرة أن أهل الكتاب -اليهود والنصارى- ليسوا كُفَّارًا، وأن الأديان مختلفة في الفروع فقط، ومتفقة في الأصول، وذلك هو الضلال المبين.
إنها دعوة تتزيَّا بزي التبديل وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على خوف الأعداء ورهبتهم الشديدة من وضوح قضايا الولاء والبراء، وقضايا العقيدة الصحيحة وما يضادها من عقائد أهل الباطل.
فيجب استغلال مثل هذه المواقف لتغيير مفهوم التدين عند كثير من الناس، لتوزن الأمور بميزان الشرع، إن من إيجابيات هذه الأحداث المؤلمة, أن يتميز الخبيث من الطيب، فرغم النزيف المتواصل الذي يتألم له كل غيور، إلا أنه يحمل في طياته ثمرات عظيمة يجب أن تستثمر في ترسيخ عقيدة الولاء والبراء؛ حتى لا يبقى الناس غارقين في أوحال التبعية العمياء لأعداء الله, ويجب أن تستثمر أيضا في تعميق أهمية التغيير الداخلي، فهو سبب تغيير الحال عموما, فكم هي الكبائر والمحرمات التي يفعلها الناس دون أن تُفرض عليهم: فالمخدرات، والرشاوى، والربا، والفواحش، والاغتصاب، والتبرج، وغصب أموال الناس، والظلم، والعدوان، والغش، وأعظم من ذلك الشرك بالله والإلحاد به وسبه تعالى وسب دينه, وهي عظائم تنتشر في كثير من الشعوب الإسلامية مع الأسف، كلها من أسباب انهيار المجتمعات, ومع ذلك يقال: ما الذي أصابنا؟!
حقيقة نحتاج إلى تحرير القلوب من التقليد الأعمى والتبعية التامة لليهود والنصارى على مستوى العقيدة، والأخلاق، والسلوك.
إن مراكز القوى الظالمة في المجتمعات الإسلامية ستندثر يوما ما، وسيخرج بعد ذلك جيل يتشكل في عقل الأمة وحسها يتغذى من مثل هذه الأزمات. فالتغيير لابد منه، وإذا تغيَّر الناس تغير ما بهم، لذلك فمن رجاحة العقل أن تستغل مثل هذه الأحداث من أجل تغيير عميق وشامل, وذلك لا يتم إلا بتغيير سلوكيات الشعوب لتتغير الموازين الداخلية, ومن تم تتغير موازين القوى في العالم.
إننا اليوم لنرجو لغزة نصراً مؤزراً من الله تعالى, لأن أهلها رفعوا راية الإسلام، غير أن ذلك لا يمنع من الحديث عن أسباب الضعف والهوان الذي أصاب الأمة وفي مقدمتها الذنوب والمعاصي التي فشت, “وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ” (الشورى:30).
فالمسؤولية مشتركة وعامة، يشترك فيها مَن ترك الواجب وفعل المحرم، مَن ترك السنة وفعل البدعة ونشرها، والتاريخُ خير شاهد. فإن توغل بدع الصوفية، وعبادة غير الله، وبدع العلمانية, أمر كان من أبلغ معاول الهدم في كيان الخلافة العثمانية، والتي ظلت تنهار في مائتين وخمسين عاما تقريباً، من أول يوم وقفت فيه حاجزا منيعا في طريق دعوة الإصلاح دعوة التوحيد الخالص والإسلام المصفى التي انطلقت من صحراء الحجاز.
فالصوفية هي التي أعلنت النكير على دعوة التوحيد، وزعمت بأن من يدعو إلى التوحيد وينهى عن الشرك والبدع يكفر المسلمين، ونادت بإعادة تعظيم القبور مرة أخرى.
واستمرت في غيها إلى أن استلمت العلمانية الدور، ليجتمع المعولان, فتكون النتيجة هي سقوط الخلافة وبالتالي سقوط المقدسات.
فالقدس ظلت حتى عام 1917م في أيدي المسلمين، تاريخ مجيء الاحتلال الغربي وأخذه تلك البلاد بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وليباشر “بلفور” إصدار وعده المشئوم الذي على إثره جمعت العصابات الصهيونية شتاتها لتقيم دولتها اللقيطة.
إن انهيار الخلافة لم يكن نابعاً من ضعف مادي أو عسكري فحسب, فالمسلمون فيهم كفاءات عقلية قادرة على تهيئة أفضل الوسائل لقوة المجتمعات المسلمة والحفاظ على الدين والدولة, بشرط الفهم الصحيح للدين والإرادة القوية على نصرته، فالخلل في فهم المنهج الإسلامي، والخلل في الالتزام به, كان من الأسباب الحقيقية خلف انهيار الخلافة، فضاعت وضاع معها كل ما كان بأيدي المسلمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
إن التغيير لن يتم إلا بالاستفادة من هذه المواقف المريرة التي تمر بها الأمة، وأن تتوقد الهمم في تغيير الواقع وإصلاحه، أما إذا استمر الواقع على ما هو عليه، وظل المسلمون لا يفرقون بين الولي والعدو، ولا يفرقون بين المؤمن والمنافق، فسيظل الواقع كما هو عليه.
ولعل أحداث غزة تكون أكبرَ أسباب هذا التغيير، وأُولى خطواته المباركة.
والمبشِّرَاتُ كثيرةٌ بحمد الله “وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ”.