تكلمنا في المقالين السابقين عن تحريف الشريعة النصرانية، وعرضنا أهم البدع التي استحدثت في الديانة الأوروبية المعتنَقة، وكان من أهمها: بدعة رجال الدين، وبدعة الرهبانية.
وفي هذا المقال نعرض صورة أخيرة لبعض البدع المستحدثة في الشريعة النصرانية، وإن كانت تلك الصور ليست كسابقيها من البدع المستحدثة من حيث تقوية خط الانحراف عن الطريق المستقيم، ولكن كان لها أكبر الأثر عن المستحدثات السابقة في اشتعال نار الثورة على الكنيسة.
أولا: الأسرار المقدسة
وللنصرانية أسرار كثيرة متعددة الأصول بعضها إغريقي، وبعضها بوذي، وبعضها منقول عن المثرائية -ديانة بولس الأولى- ومن هذه الأسرار ما يتعلق بأمور العقيدة كَسِر الثالوث، ومنها ما يتعلق بشؤون العبادة والطقوس: كَسِر التعميد، وسر العَشاء الرباني، وسر الاعتراف، وسر الزيت المقدس، وسر الصلاة الأخيرة للمحتضر وأمثالها، ونستطيع أن نقول: إن الكنيسة تعمد إلى تبرير كل طقس من طقوسها يأباه العقل، وتنفر منه النفوس بأنه سرّ إلهي.
ولكن هذا الأمر لم يخف على الكثير من المؤرخين، فمن ذلك ما ذهب إليه “غوستاف لوبون” -كغيره من النقاد العقليين- أن شعائر النصرانية ومنها العشاء المقدس بدعة منقولة عن الوثنية الميثرائية .
وسنكتفي هنا بالإشارة فقط إلى إحدى “الأسرار المقدسة” وذلك بمناقشة سر واحد وهو: (سر العشاء الرباني) ليكون نموذجًا لبقية تلك الأسرار.
ما هو العشاء الرباني؟
العشاء الرباني هو أهم عمل في الطقوس النصرانية المحرفة، ويسمى أيضًا (القربان المقدس)، وقد ورد أصل مشروعيته في إنجيل متى كما يلي: (وفيما هم يأكلون، أخذ يسوع الخبز، وبارك وكسر وأعطى التلاميذ، وقال: خذوا، كلوا، هذا هو جسدي، وأخذ الكأس وشكر، وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا) .
وبعد ذلك استحدثت الكنيسة أمرًا إضافيًا في هذه البدعة، وهي العقيدة المعروفة بعقيدة التحول أو الاستحالة، وهي وجوب الاعتقاد بأن متناولي العشاء يأكلون جسد المسيح بعينه على الحقيقة، ويشربون دمه نفسه على الحقيقة أيضًا، أما كيف يتحول الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح؛ فإن ذلك سر من الأسرار المقدسة لا يجوز لأحد أن يسأل أو يشكك فيه، وإلا عوقب بالحرمان والطرد من الملكوت.
إن الكنيسة استغلت بلاهة وسذاجة أتباعها، ففرضت عليهم مثل هذه العقائد الغريبة الممجوجة، لكن إسراف الكنيسة في ذلك أدى إلى قيام ثورة عارمة ضدها، لا سيما مع بدء الاتصال الغربي بالعالم الإسلامي إبَّان الحروب الصليبية، والحركة العلمية التي بدأت تتكون في أوروبا نتيجة لهذا الاتصال.
ثانيا: عبادة الصور والتماثيل
يقول: “ول ديورانت”: “كانت الكنيسة أول أمرها تكره الصور والتماثيل، وتعدها بقايا من الوثنية، وتنظر بعين المقت إلى فن النحت الوثني الذي يهدف إلى تمثيل الآلهة، ولكن انتصار النصرانية في عهد قسطنطين، وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر، كل هذا قد خفف من حدة مقاومة هذه الأفكار الوثنية، ولما أن تضاعف عدد القديسين المعبودين نشأت الحاجة إلى معرفتهم وتذكرهم، فظهرت لهم ولمريم العذراء كثير من الصور، ولم يعظم الناس الصور التي يزعمون أنها تمثل المسيح فحسب، بل عظموا معها خشبة الصليب، حتى لقد أصبح الصليب في نظر ذوي العقول الساذجة طلسمًا ذا قوة سحرية عجيبة”.
ومع الاتصال الغربي بالعالم الإسلامي، وإطلاع الغرب على طبيعة الدين الإسلامي والوحدانية التي ينادي بها؛ بدأ الغرب يحس بالسخف والحماقة من تقديس تلك الصور والتماثيل، فقامت في الغرب على فترات متقطعة من تاريخه حركات معادية لهذه البدعة، حتى دعت الإمبراطورة “إيريني” -التي كانت معاصرة لهارون الرشيد- رجال الدين في العالم النصراني إلى عقد مجمع عام لبحث الـمسألة، واتخاذ قرار حاسم حيالها، فاجتمع مجمع نيقية الثاني سنة “787م”، وحضر “350” أسقفًا واتخذ القرار الآتي: “إنا نحكم بأن توضع الصور ليس في الكنائس والأبنية المقدسة والملابس الكهنوتية فقط، بل في البيوت وعلى الجدران في الطرقات؛ لأننا إن أطلنا مشاهدة ربنا يسوع المسيح ووالدته القديسة والرسل وسائر القديسين في صورهم؛ شعرنا بالميل الشديد إلى التفكير فيهم والتكريم لهم، فيجب أن تؤدى التحية والإكرام لهذه الصور، لا العبادة التي لا تليق إلا بالطبيعة الإلهية” .
هذه تتمة لبعض صور التحريف التي حدثت في هذه الشريعة التي من المفترض أنها شريعة سماوية ربانية، وفي الحلقة القادمة سنتم الكلام عن هذه التحريفات وذلك بالتطرق لبدعة صكوك الغفران.