الناظر في كلام الإمام عبد القاهر الجرجاني يجده في قراءة بعض النصوص يعمد أحياناً إلى الرمز، وأحياناً ينبه على مكان الخبيء لتطلبه أنت بنفسك، وعلى مكان الدفين لتبحث عنه وتخرجه بنفسك، ويفتح لك الطريق إلى المطلوب لتضرب فيه بقدمك لا بقدم غيرك.
وهذا الأخير هو الغالب على أمره، فهو لا يحب أن يقرأ لك، وأن ينوب عنك في التأمل والتدبر. كأنه يرى في هذا حيفاً على النص من جهة، وغمط القارئ من أخرى.
ترى مثل هذا التنبيه على مكان الخبيء ليطلب في قراءة الإمام مع مدح البحتريِّ “الفتحَ بن خاقان”، التي يتغنى فيها بقوله:
بَلَوْنا ضَرَائب مَنْ قَدْ نَرَى *** فما إن رَأيْناَ لفَتْحٍ ضَريَبا
هو المرء أبدت له الحادثا *** ت عزماً وشيكاً ورأياً صليبا
تنقَّل في خُلُقي سؤدد *** سَماحاً مُرَجَّى، وبأساً مهيبـا
فكالسيف إن جئته صارخاً *** وكالبحر إن جئته مستثيبا
لا يلج الإمام قاموس هذه الصورة من قبل أن يهيئ المتلقي لترك التشاغل عنها، ومن قبل أن يبعث فيه الاستشراف إلى مكنونها. يثيرك لتقف بنفسك وتبحر وتغوص.
يقول: (اعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له بالفضل ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصاً دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر، وتأمَّلْه).
هو ينصفك من نفسه، لا يجعلك تعمد إلى ما يرى هو موصوفا بالحسن، وما يشهد هو له بالفضل، إنما تعمد إلى نصوص الأقدمين. وكأنه لا يدعك تكافحه بأن هذه ليست بالحسنة والفاضلة، يجعلك أمام ما احتكت به عقول، ولامسته قلوب، وخبرته أذواق وأرواح، فزكت فضلاً، وسمت نبلاً.
ثم يصف لك ما أنت مقيم فيه إذا ما عمدت إلى ما ذكر لك. يريك أنك ترى نفسك بهذه الصورة الشعرية التي سيذكرها قد ارتاحت واهتزت واستحسنت، أي أنك وجدت فيها ما أقامتك في السياق الاستحساني الذي أقامت فيه من سبقك، فهي ما يزال سلطان سحر بيانها فتياً.
ثم يؤذن فيك أنك إذا -هكذا تحقيقاً- رأيتها -وهي رؤية علم لا تقليد- قد راقتك وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازاً في نفسك. فحق هذه الأبيات التي منحتك الأريحية، وحذتك الطيب أن تعلم السبب الذي به كانت المقرية الحاذية. فإنْ فعلت في تلك الأبيات البحترية فأي شيء علمت: (إنك تعلم ـ ضرورة ـ أنْ ليس إلا أنه قدم وأخّر، وعرّف ونكّر، وحذف وأضمر، وأعاد وكرّر، وتوخى على الجملة وجهاً من الوجوه التي يقتضيها علم النحو، فأصاب في ذلك كله، ثم لطَّفَ موضعَ صوابه، وأتى مأْتَىً يوجب الفضيلة).
وهو إذ يثيرك ويقررك بالمعدن الذي نجم منه ما منحك الأريحية، يعمد إلى وضع يدك على مواطن الحسن من غير أن يخرجه لك؛ لتبحث أنت عنه فتخرجه، ويفتح لك الطريق؛ لتسلكه أنت، ويضع لك القاعدة؛ لتبني أنت عليها. فإنك إن فعلت إخراجاً وسلوكاً وبناء ذقت أعظم مما ذقت قبل، وفتحت مصاريع الأريحية في نفسك على نحو ليس لك بمثله علم.
يقرِّرك: (أفلا ترى أنّ أول شيء يروقك منها قوله: “هو المرء أبدت له الحادثات”).
ويدلك الإمام على موطن ثان من مواطن الحسن فيقول: (ثم قوله: “تنقلّ في خُلُقَيْ سؤدد” بتنكير “سؤدد”، وإضافة الخلقين إليه).
وإذا نظرت أنت رأيت أن هذه الجملة الفعلية منسوقة على الجملة الفعلية “أبدت”، وسياق النظم: “هو المرء أبدت.. وتنقّل..”، غير أنه ما نسقها بنسق نمطي “حرف من حروف العطف”، فهي في اعتلاقها بسابقتها غنية عن ناسق ينسقها، وكأنها في موقعها من التي قبلها موقع قول الله تعالى: {لا رَيب فيه} من قوله: {ذلك الكتاب}، بينهما ما يسميه البلاغيون “كمال اتصال”. ليس لناسق لفظي موقع بينهما؛ لأنه إن وقع يكون موقعه عقيماً، إذ لا يضيف إلى الاعتلاق بينهما فتيلاً.
ثم يدلك الإمام على موطن آخر من مواطن القراءة والتلقي لتخرج منه خبيء الدر، ودفين الجوهر، يقول: (ثم قوله: “فكالسيف”، وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ، لأن المعنى لا محالة: فهو كالسيف. ثم تكريره “الكاف” في قوله “وكالبحر”. ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطاً جوابه فيه. ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالاً على مثال ما أخرج من الآخر، وذلك قوله “صارخاً” هناك و”مستثيباً” ههنا؟ لا ترى حسناً تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت، أو ما هو في حكم ما عددت، فاعرف ذلك).
اكتفينا بهذه الأمثلة على طريقة نقد الإمام الجرجاني حتى لا يطول المقال واللبيب تكفيه الإشارة.