ما أسهل الشعارات عندما تنمق وتنطلق بها الحناجر وترفع بها اللافتات، ولكن ما أصعب اكتشاف أو استشفاف الحقائق القابعة وراءها والنوايا المستترة خلفها عندما يكون أربابها دون مستوى الشبهات.
(حقوق الإنسان).. شعار جميل.. بسيط.. يغري بالأمل، ويبعث على الاحترام، ولكن هذا الشعار: من يرفعه..؟! وفي أي اتجاه يدفعه؟! من يحدد مقومات هذا الشعار، ويرسي منطلقاته أو يضع ضوابطه؟
أسئلة تترادف كلما شن دعاة (حقوق الإنسان) حملاتهم على بعض بلدان المسلمين مستهدفين نظماً وأحكاماً، قبل الأنظمة والحكومات. فقطع يد السارق في نظرهم «وحشية»، وقتل القاتل المتعمد: «همجية»، وعقوبة المرتد: «ردة حضارية»، ومنع الخمور وحظر السفور واتخاذ التدابير ضد الانحراف والشذوذ والفجور.. كل ذلك «اعتداء سافر» على الحريات الشخصية!!
أما مساءلة (المبدعين) إذا تطاولوا على المقدسات الدينية، أو حتى على الذات الإلهية، فتدخُّل مرفوض في حرية التعبير والتفكير!
وإذا ما تعدى الأمر إلى إلزام الأقليات الدينية بشيء من النظم المستهدفة للصالح العام وجمهور الأغلبية، فحري أن ترفع الشكاوى بشأنه إلى المحافل الدولية، وتدبج بشأنه القرارات وتبدأ التنديدات ثم التهديدات ثم العقوبات. وليت مساعي دعاة حقوق الإنسان تقتصر على المطالبة بإنصاف المظلومين، ورفع المعاناة عن المسحوقين، وإرساء قيم العدالة والنزاهة بين الحكام والمحكومين، إذن لوقفنا جميعاً مع أصحاب تلك الحملات في حملاتهم، ولباركنا جهودهم وسرنا وراءهم.
إننا نعلم والناس يعلمون أن من يرفعون شعارات (حقوق الإنسان) اليوم، كانوا ولا يزالون أكثر بني الإنسان قهراً للإنسان من غير بني جنسهم طوال القرنين المنصرمين، طف بناظريك على أرجاء الخريطة الإنسانية؛ ماذا ترى؟!
ترى عالمين: عالم يضمن لشعوبه قمة العلو والنمو والرفاهية والترف، وعالم يُضَن عليه بلقمة العيش الكريم، وأدنى مظاهر الحرية والاستقلالية والشرف.
عالم يكاد يملك مقدرات كل شيء.. وعالم لا يكاد يملك أي شيء! حتى ثرواته لا يملكها.. وأوطانه لا يستطيع حمايتها، سماؤه مستباحة وأرضه غير مستقرة، مستقبله قلق، وحاضره غير مأمون، يهيمن عالم «النخبة» الذي لا يزيد عن عُشْرِ سكان الأرض، على ما لا يقل عن ثلاثة أرباع ثروات الأرض!
شيء يبعث على السخرية، ويدعو للتهكم أن تنبري هذه الأقلية المتسلطة من خلال منظماتها ومحافلها إلى التحدث عن (حقوق الإنسان)!
أي إنسان؟!
أي إنسان يريدون إعطاءه حقه؟ أهو إنسان القارة الإفريقية التي سيق الملايين من شعوبها في الشاحنات البحرية طوال عهود الاستعمار للسخرة والخدمة تحت أقدام البيض؟
أم هو الإنسان الأصلي من سكان القارة الأمريكية الذي سحق رعاة البقر القادمون من أدغال أوروبا وجوده ليلقنوا هذه الكائنات البشرية (الهنود الحمر) الدرس الأول (والأخير) من دروس (حقوق الإنسان)..؟!
أم هو إنسان آسيا الوسطى الذي حُشر الملايين من شعوبها إلى الشمال المتجمد تطبيقاً لمبادئ (شيوع الظلم) التي تفتقت عنها عقليات غربية تارة باسم الماركسية وتارة باسم الاشتراكية؟
أم تراهم يتحدثون عن إنسان القارة الأسترالية التي تعاملوا مع سكانها على أنهم حفريات تاريخية، وبقايا مخلوقات آدمية تصلح فقط لأن تلتقط بجانبها الصور التذكارية؟!
أي إنسان يتحدث عنه دعاة (حقوق الإنسان)؟
أهو الإنسان في فلسطين المستباحة، أم الإنسان في العراق المحتلة، أم الإنسان المعاقب في بلاد الأفغان، أم هو الإنسان المهضوم في البلقان، أم المقهور في الشيشان؟! غالب الظن أنهم يتحدثون عن (إنسان) المحميات الغربية التي يقوم على رعاية (حقوق الإنسان) فيها وكلاء رسميون منذ القدم، يحكمون هذه المحميات باسم الأسياد، ولصالح الأسياد، وبشريعة الأسياد!
أي حقوق؟!
ليتهم يتحدثون عن حق الإنسان في أن يزدهر.. في أن يستقل.. في أن ينتصر على تحديات عصره أو يتجاوز عقبات التخلف المضروب عليه، ولكن منظمات (حقوق الإنسان) تعرف أن واقع التخلف الذي يلف أكثر شعوب العالم النامي أو النائم أو المنوم، إنما هي في جزء كبير منها نتاج ابتزاز اقتصادي، وحصار تكنولوجي وإفساد اجتماعي، يفرض على الشعوب أن تدار شؤونها عن بُعد بواسطة الاستعمار الفكري، ولهذا فإن غاية ما يطنطن به دعاة حقوق الإنسان وقصارى ما يدندنون حوله من حقوق هذا الإنسان وبخاصة إذا كان من بلاد المسلمين هو حقه في أن يكفر.. حقه في أن يفجر.. حقه في أن يكون شاذاً أو مثلياً.. أو ملحداً أو وجودياً أو عدمياً!!
حق إناثه في أن يتساوين بالرجال في كل شيء!.. وحق رجاله في التنازل عن الرجولة بل عن الذكورة في بعض الأحوال.. ولا بأس أن تزركش المطالبة بتلك الحقوق، ببعض المطالب الجادة التي تقتصر في الغالب على من ينتقون وبالطريقة التي يريدون، كأن يطالبوا بنزاهة المحاكمة.. وكفالة حق الدفاع.. أو تجنب التعذيب، والسماح بزيارة المساجين.. أو نظافة الزنزانات!
وحتى هذه المطالب «الجادة» يطاح بها شذر مذر.. وتتحول إلى فكاهة وهذر إذا كان المعنيون منها من دعاة لا إله إلا الله المطالبين بشرع الله.