أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بظهور الفتن فعند البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يتقارب الزمان وينقص العلم ويلقى الشح وتظهر فتن ويكثر الهرج قالوا يا رسول الله: أيما هو؟ قال: القتل القتل”.
بوَّب البخاري رحمه الله على هذا الحديث في صحيحه في كتاب الفتن فقال: باب ظهور الفتن.
وترجم الحافظ ابن كثير لهذا الحديث في النهاية في الفتن والملاحم 1/60 فقال: إشارة نبوية إلى تغلغل الفتن في الأوساط الإسلامية.
وقال الحافظ بن حجر رحمه الله: “قوله وتظر الفتن فالمراد كثرتها واشتهارها وعدم التكاتم بها والله المستعان.. ونقل عن ابن أبي جمرة رحمه الله أنه قال: وأما ظهور الفتن فالمراد بها ما يؤثر في أمر الدين” الفتح 13/23.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في الضياء اللامع 3/136: “وإخباره صلى الله عليه وسلم هنا عن ظهور الفتن يشمل فتن الدين والدنيا، وأما فتن الدين فكل ما يصد عن الإيمان بالله والقيام بأمره واتباع هدي نبيه عليه الصلاة والسلام من العقائد الفاسدة والأفكار الهدامة والسلوك المنحرف والصد عن ذكر الله وعن الصلاة بالاشتغال الشهوات واللذائذ المحرمة، وأما فتن الدنيا فما يحصل من القتل والخوف والسلب والنهب”.
وليعلم أن ظهور الفتن في الناس هو امتحانا لهم ليعلم الصادق من الكاذب كما قال تعالى: “الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ”، قال ابن الناصر السعدي في تفسير الآية: “يخبر تعالى عن (تمام) حكمته وأن حكمته لا تقتضي أن كل من قال “إنه مؤمن”وادعى لنفسه الإيمان، أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن، ولا يعرض لهم ما يشوش عليهم إيمانهم وفروعه، فإنهم لو كان الأمر كذلك، لم يتميز الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل، ولكن سنته وعادته في الأولين وفي هذه الأمة، أن يبتليهم بالسراء والضراء، والعسر واليسر، والمنشط والمكره، والغنى والفقر، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن، التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة، والشهوات المعارضة للإرادة، فمن كان عند ورود الشبهات يثبت إيمانه ولا يتزلزل، ويدفعها بما معه من الحق وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب، أو الصارفة عما أمر اللّه به ورسوله، يعمل بمقتضى الإيمان، ويجاهد شهوته، دل ذلك على صدق إيمانه وصحته.
ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكا وريبا، وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات، دلَّ ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه.
والناس في هذا المقام درجات لا يحصيها إلا اللّه، فمستقل ومستكثر، فنسأل اللّه تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يثبت قلوبنا على دينه، فالابتلاء والامتحان للنفوس بمنزلة الكير، يخرج خبثها وطيبها”.
فما الواجب إذن عند ظهور الفتن؟
الواجب عند الظهور الفتن أن نتقيها مصداقا لقوله تعالى: “وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ”.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره للآية: “هذه الآية وإن كان المخاطب بها هم صحابة رسول الله صلى الله عليه لكنها عامة لكل مسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحذر من الفتن”.
وقال الآلوسي رحمه الله في تفسيره للآية: “فسرت الفتنة في قوله واتقوا فتنة بأشياء منها المداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها التفرق والاختلاف، ومنها ترك الإنكار على البدع إذا ظهرت، ومنها أشياء غير ذلك”.
وقال ابن الجوزي رحمه الله في زاد المسير عند تفسيره للآية: “وللمفسرين في معنى الكلام قولان: أحدهما: لا تصيبن الفتنة الذين ظلموا، والثاني: لا يصيبن عقاب الفتنة”.
كيف تحصل الوقاية من الفتن؟
وتكون الوقاية من الفتن بمراعات القواعد والعظات التي كان عليها أهل السنة والحديث من الصحابة ومن تبعهم بإحسان عند حلول الفتن والشبهات، لأن أهل السنة والحديث هم أعلم الناس بالحق وأرحمهم بالخلق، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “والخوارج هم أول من كفر المسلمين، يكفرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله، وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكرفون من خالفهم فيها، وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله فيتبعون الحق ويرحمون الخلق” الفتاوي 3/279.
فعلينا إذن الحرص والسؤال والبحث على القواعد والعظات التي كان عليها أهل السنة، وينصحون بها عند حدوث الفتن وتغير الأحوال لأن من أعظم أسباب الوقوع في المحن والفتن المضلة الغفلة عن القواعد والضوابط، فها هو الإمام اللكنوي رحمه الله تعالى في الرفع والتكميل يقول عن فتنة جرح بعض الناس في العلماء بغير حق: “ولنذكر نبذا من عبارات النقاد تضييقا لطعن أصحاب الفساد، فإن كثيرا منهم أفسدوا في الدين وأهلكوا وهلكوا بجرح أئمة الدين، وضلوا وأضلوا بقدح أكابر السلف وأعاظم الخلف لغفلتهم عن القواعد المؤسسة والفوائد المرصصة في كتب الدين”.
إن الفوائد التي يستفيدها المرء عند حلول الفتن المضلة إذا سار على قواعد أهل السنة عظيمة عظيمة وجملة ذلك:
1- رعاية القواعد تعصم تصور المسلم من أن يقع تصوره فيما لا يقره الشرع.
2- رعاية القواعد تعصم المسلم من الخطأ، لأنه إذا صار وراء رأيه فيما يجد، أو عند ظهور الفتن وحللها بعقله ونظر فيها بنفسه دون مراعات القواعد، فإنه لا يأمن أن يقع في الخطأ الجسيم الذي تكون عاقبته مذمومة بل ربما ازدادت الفتن واشتعلت نارها أكثر فأكثر.
3- مراعاة القواعد يسلم بها المسلم من الإثم لأن اعتماده على عقله ورأيه ونفسه يوقعه فيما يلحقه بسببه الإثم.
4- بمراعاة القواعد يسلم المرء من الندامة، بخلاف من سار على غير هدى وعلى غير منهج أهل السنة في هذا الباب خاصة، فإن عاقبته الندم والعض على الأنامل.