لنا أن نتخيل لو قام ملتح ينتمي لأي تيار إسلامي كان؛ ورفع عقيرته مطالبا بوضع حد لانتشار العري الذي تفشى في معظم الشوارع الوطنية؛ باعتباره سلوكا منافيا للمذهب المالكي والجنيد السالك؛ ومخالفا أيضا للقانون الجنائي الذي ينص على أن: “من ارتكب إخلالا علنيا بالحياء وذلك بالعري المتعمد أو بالبذاءة في الإشارات أو الأفعال يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى سنتين وبغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم” (الفصل السادس في انتهاك الآداب).
لنا أن نتخيل موقف الجرائد العلمانية الغيورة جدا على الخصوصية الوطنية! والجمعيات الحقوقية النزيهة! التي أخذت على عاتقها الدفاع عن حقوق المرأة المغربية وتمتيعها بحقوقها التي ضمنتها لها القوانين التي تسمى زورا بـ”الكونية”!
لنا أن نتخيل الحناجر التي ستنطلق والأقلام التي سترفع منددة بالفكر الأصولي الطالباني المتطرف الذي بدأ يغزو المغرب؛ والخطر المحدق الذي بات يشكله هذا التوجه على مسلسل الحقوق المكتسبة والمجتمع الديمقراطي الحداثي الذي يتطلعون إليه.
لنا أن نتخيل التهم الجاهزة وأحكام القيمة التي ستصدر في حق صاحبنا “المتهور” ونسبته إلى التيار الوهابي تارة وإلى التوظيف السياسوي تارة أخرى.
لنا أن نتخيل نداء الحريات الفردية الذي ستشهره كل المنابر العلمانية دون استثناء؛ من جرائد يومية وأسبوعية؛ وجمعيات حقوقية؛ وأحزاب سياسية.
لنا أن نتخيل شريط التهديد والوعيد الذي سيمطر به من ارتد ونكص على عقبيه؛ وتجرأ على المطالبة بعودة المرأة المغربية إلى أصلها وإلى دينها وحيائها وعفتها..
ولنا.. ولنا.. ولنا…
لكن أن تطالب جريدة علمانية بحضر النقاب في بلد مسلم عاشت المرأة فيه طيلة أربعة عشر قرنا وهي تتزيا بهذا اللباس؛ فهذا مطلب حداثي يجب أن تتبناه الجرائد والمجلات؛ ويخضع للدراسة والتحليل؛ ويفتح بشأنه نقاشا وطنيا! ويدرج في لائحة مطالب الجمعيات الحقوقية والنسوية.
ولا يجوز أبدا في حق صاحبنا “المتهور” المطالب بمنع التبرج في الشوارع الوطنية أن يلزم العلماني بمذهبه في مجال الحريات الفردية؛ أو أن يكشف تخبطه وتناقضه وكيله بمكاييل متعددة.
نحن نعلم جميعا أن مسألة النقاب لا تخلق بالنسبة لنا في المغرب مشكلة؛ لأنه ما زال لباس الكثيرات من نساء المغرب في مختلف جهاته، كما أن هذا اللباس لا يضع عقبات أمام اندماج المرأة في المجتمع ومشاركتها فيه؛ واختلاق مشكل حول هذا اللباس وجعله ظاهرة لا يمكن عده إلا زوبعة في فنجان، لكنه رغم ذلك يفصح عن موقف علماني عدائي من دين المغاربة.
أما دافع افتعال هذه القضية فيعود إلى الوضعية المزرية التي وصلت إليها جريدة الأحداث؛ والانخفاض المهول في نسبة مبيعاتها؛ وإعراض كثير من قراء الجرائد عن تقليب صفحاتها؛ وأمام هذا الوضع حاول مفلسوها تفجير هذه “القنبلة الإعلامية” للرفع من سقف مبيعاتها وإعادة بعض الاعتبار لمنبرها الإعلامي؛ ويبدو أن الأحداث لم تفهم بعد الدرس الذي كان عليها أن تعيه منذ زمن بعيد؛ وهو أن انخفاض نسبة مبيعاتها سببه الرئيس هو التهجم السافر على شعائر الإسلام وأحكامه؛ والتنقص من أعلامه ورموزه؛ والتنكر لقضايا الأمة المصيرية، ومخاطبتها لمكامن الشهوة عند القراء بدل عقولهم.
إنه لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أبدا أن الأحداث التي تطالب اليوم بحظر النقاب في المغرب وتزعم تمسكها بالهوية الوطنية وبلباس المرأة الأصيل ونبذ ما تسميه اللباس الطالباني الدخيل؛ لم تأل جهدا منذ بروزها على الساحة الإعلامية في محاربة كل من شَعِيرَتَيْ الحجاب والنقاب على حد سواء؛ ونشر المقالات والتقارير التي تشكك في وجوب تغطية المرأة جسدها بأي شكل كان؛ واصفة النقاب باللباس أفغاني والحجاب باللباس الإيراني؛ وأن هذا اللباس لا يمثل سوى “ظاهرة مرتبطة بعوامل اجتماعية وثقافية، وتمظهُر سلوكي نسبي يتغير باختلاف الفضاءات والأمكنة”؛ وأن المتدثرات بهذا اللباس مستغَلات من طرف الفهم الذكوري وسلطة المجتمع الأبوي.
بعثوا الصحائفَ يَلتَوين كأنما بعثوا بها عقارب وأفاعي
صحف يزل الصديق عن صفحاتها ويظلُّ جدُّ القول عنها نابيا
وحتى نشحذ ذاكرة قرائنا ونذكرهم بما كانت ولا زالت تروجه الجريدة المذكورة بخصوص المحجبات والمنقبات نسوق إليهم هاته النقول من مصادرها.
فقد نشرت الأحداث مقالا للعلمانية الحاقدة -التي تبيح الصلاة للحائض والمتبرجة وتطالب بصلاة المرأة مع الرجل جنبا إلى جنب في صف واحد- إلهام مانع تحت عنوان:”اخلعي حجابك” قالت فيه: “هذه دعوة لك أختي المسلمة لنزع الحجاب، دعوة صادقة، ليست خبيثة وهي طاهرة لا تسعى إلى تدنيس طرفك، كما لا تحثك من خلالها على الانحلال بل تدعوك إلى إعمال عقلك، وإلى استخدامه، وحدك فأنت وعقلك، وحدكما تكفيان دون حاجة إلى البحث في الكتب والتاريخ، دون حاجة إلى التنقيب في الدفاتر عن آراء المفسرين..، أدعوك إلى نزع حجابك فشعركِ كشعري، ليس رمزاً جنسياً أخجل منه”.
ونشرت مقالا لعماد حبيب تحت عنوان “الإرهاب والحجاب وحفرة طالبان” قال فيه: “وأنا أقرأ بعض ما أثير مؤخّرا بمناسبة غزوة الحجاب المباركة التي تشنّها أصوات خلناها اختفت واندثرت أو على الأقل راجعت قناعاتها وأساليبها العقيمة للدعوة لأفكارها المتخلّفة.. لم ولن يلبسن هذا الزي الطائفي، الدخيل والسياسي بامتياز.. لأنكم وبكل الحالات لن ترضوا بغير أفكاركم المنزّلة من السماء”.
ومقالا للعلماني جمال البنا بعنوان: “الفقه القديم استنفد أغراضه” اعتبر فيه أن “اجتهاد السلف يحتاج إلى إعادة غربلة، وأن الحجاب على سبيل المثال كان دائما مطلبا للرجل في كل الأديان من باب السيطرة على المرأة، لكنه ظل أمرا مرتبطا بالإسلام، وهذا ناتج عن ألف سنة من التقليد أدت إلى صدأ العقل المسلم أو اكتفاء المفكرين بعلاج جوانب جزئية أو تعديل في بعض الأحكام دون الجرأة على وضع أصول فقه جديد”.
ومقال لنضال نعيسة بعنوان “مثلث برمودا الفكري: نقاب، وحجاب، وجلباب”.
فيا ترى: هل تغار الأحداث فعلا على الإسلام ولباس المرأة أم تُغِير عليهما؟!
إن المنهج الملتوي الذي تسلكه الأحداث ورفيقاتها في درب المسخ والعلمنة هو المنهج نفسه الذي سطره لهم زعيم “تحرير المرأة” في العالم العربي العلماني قاسم أمين؛ فهم على خطى أسلافهم من قبل لم يبدلوا تبديلا؛ ولا زالوا إلى اليوم يدَّعون أنهم ليسوا ضد الإسلام بل ضد العادات؛ التي يوسعون دائرتها ويقحمون فيها العديد من شعائر الإسلام التعبدية ومن ضمنها النقاب؛ ويوجهون إليها بعد ذلك اتهاماتهم وسهام حقدهم.
ثم إن نقل الجرائد العلمانية عامة النقاش حول مسألة النقاب من الديني إلى السياسي؛ وتصوير النساء اللائي ارتأين لبس النقاب -تشبها بأمهات المؤمنين- على أنهن ينتمين إلى جماعات أصولية متطرفة؛ أو فئات لها أهداف سياسية محددة مجازفة في القول ورمي بالباطل؛ ذلك أن معظم النساء المرتديات لهذا اللباس الشرعي لا يخُضن في اللعبة الانتخابية ولا ينخرطن في أحزاب سياسية؛ وهذا أمر معروف ومشتهر لا يكاد يجهله أحد له أدنى اهتمام بالشأن العام.
وهو ما يكشف أن المنطق الذي يحكم كتاب الأحداث ومن سار على منوالهم بخصوص هذا الموضوع لا يخرج عن المنطق الذي استعمله من قبل قوم لوط حين قالوا من غير وازع حياء أو مسكة عقل: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}.
فالعلمانيون لن يهدأ لهم بال ولن يرتاح لهم خاطر حتى يُصَيِّروا المرأة المغربية نسخة طبق الأصل لما يروجونه على صفحات جرائدهم ومجلاتهم المتهتكة.