ليس ثمة شيء أبغض في نفس الإنسان العلماني من سماع مصطلح: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، لأن مفهومه يمثل معارضا صريحا ومباشرا للحرية الفردية التي يقدسها، والتي تعني ابتداءً: التحرر من قيود الدين وأحكام الشريعة.
وإذا كان “مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” يتفرع عن “مبدأ العبودية للخالق”، الذي يمثل الإطار التعليلي لوجود الإنسان على هذه الأرض، فإن “مفهوم الحرية الفردية الإباحية” ينبثق من “مبدأ العلمانية”، الذي يعني إلغاء سلطة الخالق على عباده جزئيا أو كليا، وهو مشروع إلحادي إباحي تبنته الصهيونية العالمية، ونسجت تزيينه بخيوط “الطفرة العلمية” و”الازدهار الاقتصادي” و”التطورات الاجتماعية”، وألبسته لبوس الحداثة والتقدم والمدنية.
وقد ترجمت ذلك “هيئة الأمم المتحدة” في شكل نصوص اتفاقيات تلغي سلطة الدين على شؤون الإنسان الأسرية والاقتصادية والاجتماعية، وتجعلها حبيسة الضمائر والمعابد.
وما فُرض على حكومات الدول الإسلامية من ذلك؛ حتّم عليها ضرورة حل معادلة عسيرة ومعقدة؛ وهي الجمع بين المحافظة على قدسية سلطة الدين، التي تتمسك بها الشعوب الإسلامية، والاستجابة لإملاءات سلطة “النظام العالمي الجديد” التي تُفرض من خلال عولمة فرعونية تقول للبشر: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر/29].
إلا أن الأمور اتجهت نحو التضحية بالواجب الديني لحساب إكراهات العولمة، كما يظهر ذلك في كثير من القوانين التي أسقطت عددا من الأحكام الشرعية، من جملتها أحكام الحسبة..
وعلى المستوى الفكري؛ يُستهجن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره عدو الحرية العلمانية، كما نلاحظ انعكاسا لهذا التوجه على المستوى الشعبي، حين نسمع بعض الناس يرفضون أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بقولهم: “كل شاة تعلق من كرعها، دعني وشأني”!
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة/204-206].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن أبغض الكلام إلى الله أن يقول الرجل للرجل: اتق الله فيقول: عليك بنفسك” [السلسلة الصحيحة 2598]
إن فقه الحسبة لا يمكن استيعابه إلا في ضوء مبدأ العبودية الذي يقضي بأن لله سلطة مطلقة على الإنسان فردا ومجتمعا، وأن له سبحانه الحكم في كل صغيرة وكبيرة وإليه المصير.
وبعيدا عن هذه الحقيقة يصعب على الإنسان تقبل الرقابة عليه في صلاته وزكاته وبيعه وشرائه وسلوكه الفردي.. وغير ذلك.
لقد عرف الفقهاء الحسبة بأنها “الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله”، وألّف في فقهها العلماء المغاربة –كغيرهم- مؤلفات كثيرة؛ ككتاب “آداب الحسبة” للسقطي، و”رسالة في الحسبة” لابن عبدون التجيبي.
وهي شبيهة بما يعرف اليوم بمجالس الرقابة، ومصالح قمع الغش ومحاربة الرشوة ..، إلا أنها أوسع في مشمولاتها، وتنبثق من أحكام الشريعة وأصولها.
ولم تزل أحكام الحسبة معمولا بها في المغرب، حيث “استمر منصب الحسبة يقوم بعمله الاجتماعي المفيد، إلى أن ظهر نظام الامتيازات الأجنبية في القرن الماضي وطغى، وصار الممثلون الديبلوماسيون والقنصليون يعترضون لفائدة رعايا دولهم على التراتيب التي تقررها الدولة والأحكام التي يصدرها ولاتها، فنال خطة الحسبة ما نال غيرها من الخطط بسبب التدخلات الأجنبية” .
وبعد الاستقلال أمر الملك محمد الخامس رحمه الله بإحياء منصب الحسبة، وصدر بذلك الظهير الشريف المؤرخ في 19 شوال 1375 (30 مايو 1956)، كما أظهر الملك الحسن الثاني رحمه الله اهتمامه بذلك فأمر بتأليف “كتاب الحسبة” المطبوع بالمطبعة الملكية بالرباط عام 1402هـ / (1982).
جاء في هذا الكتاب: “وليس بغريب أن يعتني ملوك المغرب بهذه الخطة الجليلة حتى يجعل بعضهم لها مشرفا عاما يسهر على حسن سير ممثليه في باقي الأقاليم والمدن المغربية؛ فالحسبة مظهر من مظاهر حسن سير النظام، ودقة الضبط في الدولة؛ إذ حَملُ الناس على الجادة وتطبيق تعاليم الإسلام ومراقبة أعمالهم ومنتوجاتهم، وأحوالهم الدينية والدنيوية، أعظم كافل لتحقيق العدالة الاجتماعية بين أفراد الأمة، وبتحقيق العدل يطمئن الأفراد، وتسكن نفوسهم ويرتاحون للمسيرين”اهـ .
وفقه الحسبة يستمد مشروعيته من النصوص القرآنية والنبوية التي بينت أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات الحكم العادل:
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج/41]
كما أنها صفة أساسية للمجتمع المؤمن:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة/71]
وليس المطلوب من الأمة الإسلامية مجرد إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمعاتها، بل هي مكلفة من الخالق بالتوجه بها إلى سائر الأمم، وهو العمل الذي يبوأها منزلة الخيرية بين الناس: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران/110].
وإذا كانت أمم استحقت نوعا من الإكبار لما أسدته للبشرية من خدمات في التكنولوجيا والاقتصاد والعلوم التجريبية والإنسانية، فإن الأمة الإسلامية القائمة بشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدمت للبشرية -بالإضافة إلى مشاركاتها في تلك العلوم- الهداية إلى الإيمان بالله وتوحيده واتباع شريعته، وهو ما يعني إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وإخراجهم من ظلمات الظلم إلى نور العدل، وتحريرهم من عبودية المال والسلطة والشهوة؛ وتخليصهم من رقها المذل…
والتاريخ والواقع يشهدان بأن الأمة تفقد صفة الخيرية بقدر تقصيرها في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهو تقصير بلغ أوجه في العقود الأخيرة، إلى درجة أن العلمانيين تمكنوا من فرض مبدأ الحرية العلمانية وتحجيم فقه الحسبة وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد وجدوا في المسؤولين الدينيين من وطأ أكناف مشروعهم، وذلل لهم صعابه.
بل إن التقارير الغربية التي توصي الحكومات بتشجيع الإسلام الصوفي إنما تتوخى فيه جانب التساهل في الأحكام الشرعية والخمول الذي يميت وظيفة الحسبة (شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)؛ وهذا نوع من التوظيف يشبه كثيرا توظيف العدو بالأمس للتصوف، لإطفاء جذوة الجهاد الشرعي في النفوس؛ حتى تكرر من بعض مشايخ الطرق قولهم لمريديهم: (الاحتلال الفرنسي من قدر الله ولا يجوز الاعتراض على القدر) !!!
وفي أيامنا نسمع وزير الأوقاف البودشيشي يوصي الأئمة والخطباء بعدم إنكار البدع، ويجزم بغياب مظاهر الشرك في المغرب، ويوبخ الخطيب الذي ينكر ضلالات العلماني عبد القادر البنا، ويعزل عالما رسميا لأنه نهى عن منكر استضافة داعية الشذوذ الجنسي .. إلـخ!
إن الهيكلة الصحيحة للحقل الديني لا يمكن أن تكتمل إلا إذا أقيمت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمت إعادة الكرامة لوظيفة الحسبة دون انتقائية سلبية، ولا تلاعبات سياسية.
ونحن نعلم بأن الشريعة تراعي الأولويات والتحديات، وتقوم على أساس فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، لكن ليس من هذا في شيء إماتة أو مسخ هذه الوظيفة (الحسبة)، وتكميم أفواه العلماء تلبية لمطالب السفهاء، وليس منه إسكات العلماء عن إنكار مخالفات معلومة من الدين بالضرورة كالإشراك بالله وترك الصلاة وأكل الربا وتبرج النساء..