كلام الله والفلاسفة

 

بدّع أهلُ السنة والجماعة من قال: إن القرآن فاضَ على نفس النبي مِنَ العَقلِ الفَعَّالِ، أو غَيرِهِ؛ كالفَلاسِفَةِ والصَّابِئِيَّةِ.

فإن بعض الفلاسفة المسلمين؛ كابن سينا وأضرابه، والصابئة -وهم قوم يشبه دينهم دين النصارى-؛ زعموا أن كلام الله ليس له وجود، إلا في نفوس الأنبياء، تفاض عليهم المعاني من الروح، الذي هو العقل الفعال أو غير ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية[1]: “فيقولون: هذا القرآن كلام الله وهذا الذي جاءت به الرسل كلام الله، ولكن المعنى أنه فاض على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من العقل الفعال، وربما قالوا إن العقل هو جبريل الذي ليس على الغيب بضنين أي بخيل؛ لأنه فياض.

ويقولون: إن الله كلم موسى من سماء عقله، وإن أهل الرياضة والصفا يصلون إلى أن يسمعوا ما سمعه موسى كما سمعه موسى.

وقد ضل بكلامه كثير من المشهورين؛ مثل أبي حامد الغزالي ذكر هذا المعنى في بعض كتبه، وصنفوا “رسائل إخوان الصفا” وغيرها؛ وجمعوا فيها على زعمهم بين مقالات الصابئة المتأخرين التي هي الفلسفة المبتدعة، وبين ما جاءت به الرسل عن الله؛ فأتوا بما زعموا أنه معقول ولا دليل على كثير منه، وربما ذكروا أنه منقول.

وفيه من الكذب والتحريف أمر عظيم، وإنما يُضلون به كثيرا بما فيه من الأمور الطبيعية والرياضية التي لا تعلق لها بأمر النبوات والرسالة لا بنفي ولا بإثبات؛ ولكن ينتفع بها في مصالح الدنيا: كالصناعات من الحراثة والحياكة والبناية والخياطة ونحو ذلك”اهـ.

كما بدّع أهلُ السنة والجماعة من قال: أنَّ القرآن مَخلوقٌ في جِسمٍ مِنَ الأَجسامِ أو في جِبريلَ، أو مُحمّدٍ، أو جِسمٍ آخرَ غيرهما كالمعتزلة والجهمية[2]؛ الذين زعموا بأن كلام الله مخلوق، خلقه الله في جسم من الأجسام المخلوقة، فمن ذلك الجسم ابتدأ لا من الله.

قال ابن تيمية[3]: “وقد قال الله تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق}؛ فقال: إنهم يعلمون ذلك ولم يقل إنهم يظنونه أو يقولونه؛ والعلم لا يكون إلا حقا مطابقا للمعلوم بخلاف القول والظن الذي ينقسم إلى حق وباطل؛ فعلم أن القرآن العربي منزل من الله لا من الهواء، ولا من اللوح المحفوظ، ولا من جسم آخر، ولا من جبريل، ولا من محمد، ولا غيرهما.

وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره من السلف في تفسير قوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}؛ أنه أنزله إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزله بعد ذلك منجما مفرقا بحسب الحوادث، ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله؛ كما قال تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ}، وقال تعالى: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون}.

وقال تعالى: {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة}.

وقال تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}.

فإن كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ، وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة؛ لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله؛ سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك.

وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر؛ فقد كتبه كله قبل أن ينزله.

والله تعالى يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وهو سبحانه قد قدر مقادير الخلائق وكتب أعمال العباد قبل أن يعملوها كما ثبت ذلك في صريح الكتاب والسنة وآثار السلف.

ثم إنه يأمر الملائكة بكتابتها بعد ما يعملونها؛ فيقابل به الكتابة المتقدمة على الوجود والكتابة المتأخرة عنه فلا يكون بينهما تفاوت؛ هكذا قال ابن عباس وغيره من السلف؛ وهو حق.

فإذا كان ما يخلقه بائنا منه قد كتبه قبل أن يخلقه؛ فكيف يستبعد أن يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم به؟

 

[1]  مجموع الفتاوى (12/ 23).

[2]  حاشية مقدمة التفسير لابن قاسم (ص: 19).

[3]  مجموع الفتاوى (12/ 126).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *