في الوقت الذي يسعى فيه بعضنا فرارا صوب معانقة “الآخر”، وإيجاد حيز ولائي في قلوب المسلمين ودفعهم دفعا إلى القبول بأديانه المنسوخة سلفا، المحرفة حيفا، وجعلها بالقصد المخبول في الواجهة مع دين الإسلام، دين الابتغاء المقبول، محاولة من هذا البعض تطويع نصوص القرآن، وجعلها في خدمة عقيدة الأحبار والرهبان والأسباط والصابئة، وبعد هذا السعي الذي وضعت له الكراسي الجامعية حتى صار الإقرار بالأديان المنسوخة ضرورة حداثية في عملية مقارنة شنيعة بين عقيدة التوحيد وعقيدة التثليث، وجعلها وعاءًا عاما نقيس به ومن خلاله مراد الله ورسوله.
وبعد هذا السعي يأتي التباكي ويكثر التشاكي من حملات التنصير ومساعي التبشير في بلاد المسلمين، مع أن أي عاقل يرى أن الإقرار بأن في الأرض أديانا سماوية نافذة المفعول حالا مع الإسلام، هو نوع من التبشير ودعوة إلى التنصير، وإن قال به الذين يحملون في صدورهم ختمات من الاستظهار القرآني؛ إذ لا ضير والحال هكذا أن ينتقل المرء من دين إلى آخر، سبيله هو أيضا أن يطهر النفوس حالا ويفضي إلى الإدخال المبارك والزحزحة المنشودة مآلاً..
فالقضية كلها إذن، أن نختار بحرية فردية بين زخم الإرسال وتراث التنزيل، لنعانق بعد هذا دينا كان إسلاما أو سواه، مادامت القراءة الفلسفية الحداثية لا تأبه لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}، بل تتجاوز ذلك إلى نبز هذا التأصيل العقدي بالجرأة الفقهية التي ترقى إلى مرتبة الفضيحة.
ومع هذا السعي والانبطاح الإرادي، نرى في المعسكر الآخر سخائم الشر ما فتئت تتحرك لضرب عرى ديننا وإقصاء تعاليمه السمحة، ومقابلة الحلم بالضراوة، والإستكانة بالترويج للفوبيا ضد أحكامه والمعتنقين لنقاوة عقيدته، وجعله بالحصر والقصر مرادفا للإرهاب والتطرف، ومن ثمة؛ تنفير الخلق وتحريف الحق الذي جاء به إسلامنا العظيم، إننا وفي الوقت الذي نسعى إلى إيجاد مسوغات تجعل الثلاثة في حكم الواحد، نرى أن هذا الآخر لا يرقب فينا إلاً ولا ذمة، ولا يتوانى كلما تذكر وجودنا معه في الأرض كرَّ علينا، ليشرد إخواننا، وينهب أموالنا، ويستبيح حقوقنا، وأنّى له أن يطأطئ هامته الشقراء لهذا الاصطفاء الذي خصنا به الله نحن المسلمين منذ أن بعث فينا خير المرسلين، لنصير بعد هذا البعث المبارك أمة تقود ولا تنقاد، تمشي على السوية ولا تلهث وراء أهواء الجاهلية، أمة صارت لها الخيرية بانتقالها من القبلية إلى الكونية، وعلى هذا الإباء والإعراض نرى اليوم بقايا من الحقد القديم تناور لضرب رموزنا المقدسة، بدءاً بالرسوم الكاريكاتورية، وفرقان الباطل، واستهداف المآذن، والحجاب، والنقاب، وتدنيس المساجد..
واليوم يحاول قس أمريكي حرق نسخ من القرآن حسدا من عند نفسه بعدما تبين له ولغيره، كيف قامت دولة الإسلام في الماضي بالقرآن، وإمكانية قيامها في الحاضر به وبالتمسك بأحكامه العادلة التي بددت ظلمة دياجير النظم الوضعية الوضيعة؟
والحقيقة أن المرء تتملكه الغرابة، لا من إرادة فعل هذا الخسيس! بل من ردّ فعلنا نحن المسلمون الذين أخبرنا القرآن عن كون هذا البئيس هو من الناس الذين تبرأ عيسى عليه السلام من قولهم فيه وفي أمه بالألوهية، وقرر بالمقابل فيه وفي أمه حكم العبودية الحاسم، ليوصلنا إلى منزلة اليقين العقدية في عبد الله ورسوله وكلمته إلى مريم وروح منه، وليوقع هذا الحسم بقوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}.
والغرابة إذن كوننا لا نلتفت إلى هذا الامتراء ولا نلق له بالا وعليه أسفا، وهو حرق أدهى وأمر من حرق نسخ القرآن على شناعته، ذلك أن فيه هدرا لعقيدتنا في رسل الله، وما قرره سبحانه من قصص حق في الذين خلوا من قبلنا، ثم أليس من صنوف الحرق تعطيل الشريعة في بلاد المسلمين، والإجهاز على منظومة الأخلاق، ومأسسة الربا، وتقنين الخنا، ونضوح شوارع جغرافيتنا بالعري والسفور، وتمظهرات التغريب المقيت، وعلمنة الحياة، وحصر الدين في ركن سحيق والحيلولة بين أحكامه الفاضلة وقضايا الناس؟
ثم أليست دعوة البعض إلى ترجمة القرآن إلى اللهجة العامية حتى تنفره النفوس المغبونة بزعمهم بتدبره وطاعة أحكامه درجة متقدمة من الحرق؟
ثم أليس دعوة تلك الثلة الحائفة إلى إفطار جماعي في نهار رمضان علنا، والتفاف حملة ثقافة التغريب لشد أزرهم ومسنادتهم، حرق من صنوف الحرق الشانئ؟
وهل التنكيت بالله ورسوله وفتاوى أهل العلم إلا صورة من صور الحرق اللعين لمصدر تشريعنا الأول؟
أضف إلى هذا الفصام النكد ما هو أنكد منه، وهل هناك نكد أكبر من أن توزع ربوبية الله، وتحال صلاة العبد ونسكه ومحياه ومماته على الأنداد من دون الله، دفناء المشاهد والقباب والأضرحة الأقطاب والأبدال والأوتاد وسيدهم الغوث، أليس في هذا حرق لما اجتمعت عليه أخوة الأنبياء، والتقت عليه جهود الرسل قاطبة، وأوجزه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}؟
وحتى لا نسترسل مع أسباب إستغرابنا، نرجع لنقول: إنه ما تطاول أحد على ديننا وقرآننا ونبينا إلا بسبب ما كسبت أيدينا، فكل إفراط منهم فهو على سبق تفريط منا، وكل كرّ منهم مسبوق بفر منا، وكل عملية عبور لثغورنا هي بعد إشارة ضوئية مرورية منا، وعليه فترشيد احتجاجنا يبدأ من نقطة إعادة ترتيب بيتنا الإسلامي، وتأثيث جنباته وأركان الحياة فيه، بما يرضاه الله ورسوله عنا نحن الأمة الموصولة بالله، التي تملك اليوم ما لا تملكه سائر الأمم؛ حبل الله المتين وقرآنه المبين، وسنة نبيه سيد المرسلين، وتراث سلفنا أهل التقوى واليقين.
وأما خارج هذا النوع من الترشيد فنعتقد استشرافا للحق، ونشدانا للغلبة، أنه ومهما اختلت بنا الموازين، وتأرجحت بنا دولة الأيام بين النصر والاندحار والتقدم والقهقرى، فإننا نحب أن نلقى الله بيقين مفاده: أن إسلامنا العظيم مصون المنابع، ومحفوظ المصادر، مصداقا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، فأسألكم إبلي.. وللبيت رب يحميه.