لا يمتري اثنان في أن من مصلحة الجزائر نسج علاقات جيدة ومتينة مع المغرب..
فالجغرافيا تجعل منهما منطقة واحدة ذات مصالح اقتصادية وأمنية مشتركة، والتاريخ جمع بينهما في ظل دين واحد ولغة واحدة، وحُكمٍ موحّد في عهد بعض الدول..
ولمَّا صارت الجزائر ولاية تابعة للسلطة العثمانية؛ تدخلت الدولة المغربية لمساعدة السلطة المركزية في الجزائر في حل كثير من الأزمات السياسية والاقتصادية، وتعلق الجزائريون بالسلطان في المغرب حتى سعوا إلى بيعة المولى سليمان مرتين؛ الأولى: سنة 1221 هـ، والثانية: عام 1228 .
ثم كانت مساعدة المغرب للجزائر في تحقيق استقلالها سنة 1961م..
ولا يخفى على الجزائر بأن قوة الدولة اليوم؛ رهينة بمدى انسجامها في وحدة، أو على الأقل تكتلات تخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية والثقافية والأمنية..
إن العقل لا يستسيغ أن تتجاوز الجزائر هذه الحقائق كلها وتختار التحيز إلى كيان انفصالي لا يتجاوز عدد أفراده 400 ألف نسمة؟!
كما أن المنطق يرفض أن تترك الجزائر تلك المصالح المهمة بسبب حرب الرمال التي جرت بينها وبين المغرب عام 1963، أو بسبب غضبها من الاتفاق الذي جرى بين المغرب وموريتانيا عام 1974؛ مثلا!
فما هي الأسباب الحقيقية الكامنة وراء المواقف العدوانية للسياسة الجزائرية؟
مواقف وصلت إلى درجة التنسيق مع أحزاب إسبانية وغيرها لإقناع البرلمان الأوروبي باتخاذ قرارات تمس بسيادة المغرب وشرفه وعزته..
مواقف وصلت إلى درجة التلويح والتهديد باستعمال القوة العسكرية!
.. إن كثيرا من السياسيين والكتاب يستبعدون التحليل الذي ينحى منحى إثبات نظرية المؤامرة، مع أنه يفرض نفسه في كثير من الوقائع والأحداث؛ مثل هذه التي نحن بصدد الحديث عنها..
وأنا مدرك بأن سبب الفرار من إثبات نظرية المؤامرة هو العجز عن مواجهتها ودفع غوائلها.
ولكن هل يصح أيضا تجاهلها؛ وهي قائمة بقرائن جلية، بل بأدلة واضحة؟
وكيف يصح تجاهلها ونحن نسمع وزيرة الخارجية السابقة في الدولة الصهيونية (غولدا مائيير) تصرح -حين كانت مسؤولة عن ملف إفريقيا-: “إن إضعاف الدول العربية الرئيسية واستنزاف طاقاتها وقدراتها واجب وضرورة من أجل تعظيم قوتنا وإكمال عناصر المنعة لدينا في إطار المواجهة مع أعدائنا”.
ففي ضوء هذه الرؤية المؤامراتية؛ تم صنع جبهة البوليساريو لتقوم بدور الفزاعة للمغرب متى فكّر في تحقيق ذاته والتخلص من قبضة الهيمنة الثقافية والاقتصادية لمستعمريه..
ولما كانت هذه الجبهة ضعيفة تم العمل على تقويتها بالجزائر..
ولنفهم هذه الحقيقة بشكل أوضح؛ نحتاج إلى التأمل في المؤامرة التي تمت ضد السودان، ونعيش هذه الأيام أحد أهم فصولها:
يقول الكاتب المهتم بالشؤون الإفريقية (مارك يارد): “منذ نشأتها بحثت إسرائيل عن نسج علاقات اِلْتفافية مع دول مجاورة للعالم العربي؛ وهكذا أقامت علاقات مع تركيا كمال أتاتورك، ومع إيران الشاه، ومع إثيوبيا البلد القريب من السودان، والذي ساعد كثيرا التمرد في الجنوب السوداني..
وكان الإسرائيليون قد بدؤوا منذ الخمسينيات -أي منذ استقلال السودان- بدعم الحركات الانفصالية في جنوب السودان؛ فدعموا مثلا (تمار آنيانا)، ثم الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة (جون غرنغ) وكان ذاك الدعم متواصلا بغية إضعاف الدول العربية”اهـ.
ويقول (آفي ديختر) وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي في محاضرة ألقاها يوم 4 سبتمبر 2008: “كان لا بد أن نعمل على إضعاف السودان وانتزاع المبادرة منه لبناء دولة قوية موحدة..
إستراتيجيتنا التي ترجمت على أرض الجنوب سابقا، وفي غربه حاليا؛ نجحت في تغيير مجرى الأوضاع في السودان نحو التأزم والانقسام، الصراعات الحالية في السودان ستنتهي عاجلا أو آجلا بتقسيمه إلى عدة كيانات ودول، وكل الدلائل تشير إلى أن الجنوب في طريقه إلى الانفصال، هناك قوى دولية بزعامة أميركا مصرة على التدخل في السودان لصالح استقلال الجنوب وكذلك إقليم دارفور كما حصل في إقليم كوسوفو”.
ويلخص أحمد حمروش (رئيس لجنة التضامن المصرية) مقاصد المؤامرة بقوله: “إسرائيل هدفها تمزيق الوحدة العربية، وتمزيق كل محاولة لتجمع الدول العربية حول موقف واحد، ولذلك هي تجد في جنوب السودان فرصة للعمل على إثارة المشاكل والخلافات والحروب بين الشمال والجنوب؛ وهذا يؤدي بالتالي إلى تمزيق الوحدة العربية، هذا هدف إسرائيل الدائم والمستمر”.
ولعل ما تقدم كاف للبرهنة على أن موقف الجزائر يمثل خدمة للمشروع الصهيوني في تمزيق الوحدة العربية الإسلامية.
وأنه موقف تعبث به أيادي المستعمر القديم؛ الذي لم يخرج عتاده العسكري حتى زرع بذور الفتنة ليجني ثمارها في الوقت المناسب.
وعليه؛ فإن الجزائر لا تزيد على تطبيق ما يملى عليها من أعداء الأمة الذين أحكموا قبضتهم على سياستها من خلال الجيش والأجهزة الاستخباراتية..
وكلنا يستحضر شهادات زعماء وعسكريين جزائريين –من آخرهم الشاذلي بن جديد- أثبتوا ذلك التحكم القوي الذي ظهر بشكل بارز في انقلاب الدولة على نتائج الانتخابات التي أعطت الأغلبية للجبهة الإسلامية للإنقاذ عام 1991م.
إن المتآمرين علينا أنواع لجنس واحد؛ سواء مثلتهم الدولة العبرية أو الإسبانية أو غيرهما..
والدول الغربية عموما تغترف من مرجل واحد، وتحمل نظرة واحدة للدول الإسلامية؛ نظرة استعلائية استعمارية احتقارية..
وكما نسجت (إسرائيل) علاقات مع دول جوار السودان لتدعم من خلالها الحركات الانفصالية في الجنوب، والغرب (دارفور)؛ فكذلك نسجت (إسبانيا) علاقات مع الجزائر لتدعم من خلالها انفصاليي المغرب..
إن إسبانيا أدركت جيدا مرامي السياسة الحكيمة التي انتهجها صاحب الجلالة الملك محمد السادس وفقه الله لسحب البساط من تحت أقدام المحتلين لسبتة ومليلية..
وأدركوا جيدا بأن الأوراش الاقتصادية الكبرى التي دشنها كفيلة بأن تفقد القيمة الاقتصادية لسبتة ومليلية، مما يمهد لاستقلالهما عنها حين يتحولان إلى عبء مادي ثقيل..
فقامت لتواجه هذه الاستراتيجية الحكيمة بمواقف عدوانية ظالمة؛ تستبيح الكذب الإعلامي والنفاق السياسي..
وهذا لا يُستغرب منها؛ بقدر ما يستغرب من الجزائر الشقيقة التي رضيت أن تلعب دورا في مسلسل المؤامرة، وضحّت بمصالح ذات أسس شرعية، ومرتكزات تاريخية، من أجل مصالح تعتمد على شفا جرف هار يوشك أن ينهار بدول المنطقة كلها؛ كما تؤكد ذلك مستلزمات التآمر التي أكدتها وثائق (ويكيليكس) مؤخرا..
إن ثبوت نظرية التآمر على ديننا ووحدتنا الترابية؛ يحتم علينا عدم الاقتصار على الحلول الهامشية؛ كتقوية الدبلوماسية والمناورات السياسية، وكتحريك الآلة الإعلامية؛ لتحسين صورة المغرب عند الحقوقيين الغربيين ليضغطوا على حكوماتهم..
كما يلزمنا بعدم الاعتماد على دعم يتقلب برياح المصلحة، ويكلفنا تنازلات اقتصادية وثقافية قد تكون لها أضرار خطيرة جدا..
ويبقى الحل الجوهري هو رسم سياسة حكيمة وقوية، تمهد لوحدة دينية واقتصادية تتكسر عند صخرتها محاولات التآمر..
وهذا يحتاج إلى التوعية بأسس وخفايا ذلك التآمر الذي زرع بذور الشقاق والنزاع، ويحتاج إلى تفعيل الخطاب الشرعي الواعي لإقناع المتنازعين بواجب التوحد وجمع الكلمة:
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون/52]
{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال/46]
عِلما أن في كل طرف من الأطراف الثلاثة المتنازعة؛ أصحاب توجهات يسارية علمانية يعملون على استبعاد الحلول الدينية، وهم جزء من المؤامرة..لكن في المقابل هناك جهات لن تتردد في تبني الحل الشرعي إذا قامت التوعية الضرورية به..
إن المنطق فضلا عن الواجب الشرعي يحتم علينا سلوك هذه الطريق؛ لا سيما بعد أن أضحت المؤامرة مكشوفة، وتبين أن التحالف المطلق مع الدول القوية تحالف هش، كما اتضح بأن التحاكم إلى هيئة الأمم المتحدة لا يحقق عدلا ولا يدفع ظلما، مهما قدمنا من التنازلات، التي وصلت إلى درجة إقصاء الدين كموجه لنا في مواقفنا وسياساتنا؛ والأحداث المتتالية تؤكد بأن هذه الهيئة إنما تلهث وراء مصالح الدول القوية، ولا تكترث بمصالح غيرها إلا نفاقا ومداهنة؛ وهو ما أكدته الفضائح التي كشفها موقع (ويكيليكس)؛ التي لم تبق شكا في أن الدول الغربية تنافق الدول النامية وتظهر احترامها في الوقت الذي تبطن احتقارها والسخرية منها..
وصدق ربنا: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة/8]
وهو ما أكدته أيضا أحداث العيون التي استغلها الاتحاد الأوروبي فهرول لإدانة المغرب والمس بسيادته ظلما وعدوانا ؛ في مقابل التجاهل المريب لخروقات الجزائر والبوليساريو في مخيمات تندوف، وما أقدموا عليه من اختطاف المغربي مصطفى سلمى، وإثارة فتنة فقد فيها 11 من رجال الأمن أرواحهم رحمهم الله وأحسن عزاء أُسَرهم؛ -وعامتهم شباب حديثو عهد بالعمل، مجردون من السلاح-..
كما تجاهلوا ما أقدمت عليه الصحافة الإسبانية من تزوير أخبار كاذبة .. إلـخ.
تجاهلات لم ينفع معها المجهود الجبار الذي قامت به الديبلوماسية المغربية، والإعلام المغربي في إيضاح الحقائق..
إن ما تقدم من القناعات لا يعني أننا نميل إلى الحلول العدوانية، ولا أننا نحب اقتحام ما لا نطيق؛ بل إننا متشبعون بقيم ديننا التي تحث على الجنوح إلى السلم ونشر الأمن والأمان والإيمان؛ كما تأمر بالواقعية وعدم تكلف ما لا يطاق..
لكن هذا لا يعني الاستسلام للانهزام النفسي، وترك الإعداد الشرعي الحكيم؛ وما يستلزمه من توعية وتبيين لسبيل المجرمين، وفضح لمخططات المتآمرين..
وإذا لم نكن قادرين الآن على نوع من المواجهة؛ فلا أقل من أن نقوم ببلورة سياسات ورسم خطط تنبع من توجيهات ديننا..
ولا أقل من أن نعزز قدراتنا لمواجهة الغزو الفكري والثقافي الذي يميت في قلوبنا الغيرة الدينية ومستلزمات الانتماء، ويجعلنا لقمة سائغة لكل متآمر متربص..