ما كان يُظن أن الأمة الإسلامية، وفي بلد إسلامي، أهله كلهم ينتمون إلى الإسلام، وفيه أمير المؤمنين، وفيه المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية التابعة له في كل إقليم، وفيه آلاف المساجد والمصلين والخطباء والعلماء، يصل الأمر بأبنائه إلى هذا الانحطاط الخلقي، وإلى نزع ثياب الحياء الذي يحمل صاحبه على كل خير.
أين غيرة أهل الإسلام على دينهم؟! يستهزأ بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبالصحابة وبالدين، وينشر ذلك في أوساطهم وفي مجلاتهم على أنه وعي وثقافة، والحقيقة ليست هذه هي الموبقة الأولى من نوعها، بل هي سلسلة متتابعة من الطعن بالرسول صلى الله عليه وسلم بالشعر والقصة، والطعن بالصحابة بالتأليف والنشر، والطعن في شعائر الإسلام وفي السمت الإسلامي، والطعن في البخاري وهو طعن في السنة والقرآن والحديث والسلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين، والطعن في أعظم ركن من أركان الإسلام حتى إن بعض القنوات المتخصصة في الطعن في الإسلام وأهله يصرح فيها بأن تعليم الصلاة للصغار أحد صور الإرهاب. وكذا الجري وراء البرامج التعليمية ومحاولة إزالة ما فيها من الآيات والأحاديث أمر يتكرر من حين لآخر وأصبح مفعوله سارياً يسعى إلى تطبيقه.
وجاءت هذه الأحداث المشؤومة -أعني أحداث التفجيرات في بقاع مختلفة من بلاد المسلمين وغيرهم- فجرّأت كل زنديق وحاقد على الإسلام، ففتح الباب على مصراعيه، وأصبح الهجوم على الإسلام وأهله مما ينبغي أن يتسابق إليه؛ فتجرأت أوروبا والدانمرك على وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بكل قبيح، وتجرأ بابا الفاتيكان بما يكنه صدره وإخوانه من الصليبيين ودعاة التنصير، وتجرأ الروافض على سب الصحابة وأمهات المؤمنين على المنابر والقنوات والمجلات والجرائد والمطويات والمنشورات؛ بل وقعوا في الرسول صلى الله عليه وسلم. وللعلم إن هذا مخطط كبير، القصد منه حرب الإسلام وأهله، وأن الإسلام والمسلمين لا حق لهم في الحياة، بل لا حق لهم في الوجود، وأن الإسلام هو العدو الحقيقي لكل تمدن وحضارة، وأن الإسلام هو العرقلة الحقيقية لكل تقدم ورقي، هكذا يصور أعداء الإسلام الإسلام للناس، حتى يسوغوا هذه الموبقات، ليشككوا عموم المسلمين في دينهم. وقد وقعت هذه الحملة وأمثالها في السابق ولا سيما في سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي، فكم تجند من كاتب ومعلم وأستاذ لحرب الإسلام وأهله، وأما المستشرقون من اليهود والنصارى وذيولهم من أبناء العرب والعجم فلهم القدح المعلى، فهم شياطين الإنس الذين ذكرهم الله في القرآن، والإسلام ليس كما يصورون؛ بل هو الرحمة للبشرية جمعاء وبه يزكو كل تقدم بشري .
ونقول لهؤلاء الذين نشروا هذه الحماقات في مجلتهم: لقد سبقكم أمم في غابر الزمن كانوا أكثر منكم قوة وذكاء فأهلكهم الله بسخريتهم، وأغرقهم وأنزل عليهم من عذابه ما يستحقون، مع ما يدخر لهم في الآخرة من العذاب، قال الله تعالى في قوم نوح: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}، وقال تعالى في قوم موسى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}، وقال تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.
وأما حكم المستهزئ فقد جاء في قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ، وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
أخرج ابن جرير عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء! فقال رجل في المجلس: كذبت ولكنك منافق! لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن، قال عبدالله بن عمر: فأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ”.
قال سليمان بن عبد الله: “أجمع العلماء على كفر من فعل شيئاً من ذلك؛ فمن استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله، أو بدينه كفر، ولو هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعاً”.
قال السعدي: “فإن هذا مناف للإيمان بالكلية، ومخرج من الدين؛ لأن أصل الدين الإيمان بالله وكتبه ورسله، ومن الإيمان تعظيم ذلك. ومن المعلوم أن الاستهزاء والهزل بشيء من هذه أشد من الكفر المجرد؛ لأن هذا كفر وزيادة احتقار وازدراء”.
قال رشيد رضا: “ويغفل عن هذا كثير من الناس يخوضون في القرآن والوعد والوعيد، كما يفعلون إذ يخوضون في أباطيلهم وأمور دنياهم، وفي الرجال الذين يتفكهون بالتنادر عليهم والاستهزاء بهم… والمعنى أن الخوض واللعب إذا كان موضوعه صفات الله وأفعاله وشرعه وآياته المنزلة، وأفعال رسوله وأخلاقه وسيرته كان ذلك الاستهزاء بالشيء عبارة عن الاستخفاف به، وكل ما يلعب به فهو مستخف به… كما أن من يحترم شيئا أو شخصا أو يعظمه؛ فإنه لا يجعله موضوع الخوض واللعب.
قال القاضي عياض رحمه الله: (قد تقدم من الكتاب والسنة وإجماع الأمة ما يجب من الحقوق للنبي صلى الله عليه وسلم، وما يتعين له من بر وتوقير وتعظيم و إكرام، وبحسب هذا حرم الله تعالى أذاه في كتابه، وأجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين وسابه؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }، وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً}.
وقال أيضاً: “اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه، أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه، أو دينه أو خصلة من خصاله، أو عرَّض به، أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه أو الغض منه والعيب له؛ فهو ساب له، والحكم فيه حكم الساب يقتل كما نبينه، ولا نستثني فصلا من فصول هذا الباب على هذا المقصد، ولا يمتري فيه تصريحا كان أو تلويحا. وكذلك من لعنه، أو دعا عليه، أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام، وهجر ومنكر من القول وزور، أو عيَّره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا”.
قلت: هذا بيان توخيت فيه الإيجاز والإجمال غيرة لله ولرسوله ولدينه، وإلا فقد فصلت الكلام في المسألة في كتابي (تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم).
وكتبه الدكتور محمد المغراوي رئيس جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة بمراكش
بتاريخ: السبت24 ذو القعدة 1427هـ الموافق16-12-2006