لماذا اخترنا الملف؟

لعلّ من حكمة العليم الحكيم أنَّ ثمة أخطاء ترتكب، أو شبهات تقذف في بحر الشريعة، فتكون سبباً في الانتباه إلى المبادئ والأصول كلّما ابتعد النّاس عنها، أو خَفَتَ ذكرها بينهم..
فكم من مسائل أثيرت على خلاف الأصول والمبادئ، كان أثرها ظاهرا في إشعال جذوة الأصول وتجديد قوة المبادئ في النفوس، وتحريك حالة التبلّد التي قد تصيب الحراك الفكري، الذي يُنتظر منه الإصلاح والتصحيح؛ نعم كان لها ضحايا.. لكنهم قلَّة في جانب ما يُحقِّقُه الانتباه إلى الأصول وحمايتها من نجاة واسعة، وبقاء الحق متوارثا بصفاء، ولو خلى الزمان ممن يطبقه. (انظر:سيادة الشريعة؛ للدكتور سعد العتيبي).
يقول جوستاف لوبون: “إنَّ الأخطاء التي تُظنّ من الحقائق؛ تلعب في دفع عجلة التاريخ دوراً أكبر من الدور الذي تلعبه الحقائق ذاتها” (الأسس العلمية لفلسفة التاريخ، لجوستاف لوبون) .
فبعد أن أبعدت العلمانية الدولة عن هدي السماء، ودفعتها القومية والوطنية إلى الأنانية والاستعلاء على الآخرين؛ تبنت الدولة المدنية الحديثة النظام الديمقراطي في الحكم؛ ليكون الحكم بمقتضى مصالح كل شعب ورغباته، فالحق والصواب: ما يحقق منافع الأمة الدنيوية، والخطأ والباطل: ما كان لا يحقق مصالحها، وتقدير المنافع والمصالح تحدده رغبات الشعوب وأهواؤها، وما كان مرفوضًا بالأمس يقبل اليوم، وما يقبل اليوم قد يرفض غدًا، فلا ثوابت ولا قيم ولا مبادئ إلا المصلحة والمنفعة تحددها قيادات وزعامات من البشر تقود الجموع إلى ما ترى.
والإسلام -كما هو معلوم عند كل مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله موقنا بها قلبه- يجعل الهداية في: شرع الله تعالى، ويستمد قوانين الأمة منه، في ظل ثوابت عقائدية وأخلاقية وتعبدية لا تتغير ولا تتبدل، ومنهج لمعاملات الأمة يجمع بين القواعد العامة، وبعض التفصيلات تراعى إصلاح الشريعة لكل زمان ومكان، ونظام للعقوبة رادع يضمن للأمة الأمن والأمان، والتكافل بين أبناء المجتمع الواحد؛ يؤهل المجتمع للتماسك والتواد والتواصل.
فمنذ عهد الاستعمار الحديث الذي حل في ربوع المسلمين، الذي سموه زوراً وبهتانا بعصر التنوير؛ بدأت تطرق آذاننا ألفاظ لمسميات لم نسمع بها من قبل ذلك نحن ولا آباؤنا، من ذلك كلمة «الدولة المدنية» التي يبشر القائلون بها والداعون إليها، بأن كل أزمات المسلمين في العصر الحاضر من الاستبداد السياسي إلى التخلف التقني، إلى الفقر والبطالة وتدني الخدمات، أن كل ذلك سيزول بمجرد أن تتحول دولنا إلى دول مدنية!!
ولما كانت المنافع المعلقة على هذا التحول منافع كبيرة يحرص كل إنسان يريد الخير لأمته ومجتمعه على الحصول عليها، كان لا بد لنا من معرفة مدلول هذا اللفظ حقيقةً قبل قبوله والدعوة إليه، حتى لا نذهب إليه ثم يتبين لنا ما فيه من الفساد العريض، لكن بعد أن يكون قد فاتنا القطار!
فماذا تعني الدولة المدنية؟
هل يراد بالدولة المدنية: التعليم الحديث واستخدام التقنية المعاصرة في شتى مناحي الحياة، والإدارة الحديثة، والتوسع في العمارة وإنشاء الطرق السريعة؟
قد يكون هذا بعض المطلوب.. لكن هل هذا هو المطلوب أو كل المطلوب؟
وهل يكفي هذا المطلوب أم هناك شيء آخر؟
وهل الشيء الناقص يعد جوهرياً أو ثانوياً؟
فمِن خصائص الشريعة الإسلامية الشمول، فما من شيء في الحياة إلا وللشريعة حكم فيه، قال الله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام:38)، ومِن أحكامها ما يتعلق بشؤون الدولة ونظام الحكم فيها، وهي مستمدة مِن نصوص يلزم تطبيقها وتنفيذها، أي إقامة نظام الدولة حسب المفاهيم التي جاءت بها هذه الشريعة. (حول الدولة المدنية؛ علاء بكر).
وحين نتكلم عن الدولة في الإسلام، والدولة في المدنية الحديثة فإنما نتكلم عن نظامين مختلفين تمامًا، ونتكلم كذلك عن نظامين وُجدا في الواقع وطُبقا في الحياة العملية للشعوب، فليس الحديث هنا حديثًا نظريًا لا حقيقة له في الواقع، ويخطئ مَن يظن أن الدعوة إلى العمل بنظام الدولة يستمد أحكامه ودعائمه مِن شريعة الإسلام أنها دعوة جديدة لتجربة أمر جديد، فالحقيقة أنها دعوة إلى العودة إلى نظام لحياة الشعوب سبق للبشرية أن عاشت في كنفه سنينًا طويلة بعدله وأمنه واستقراره بما لم تحظى بمثله في ظل النظم الوضعية الحديثة رغم جحود المخالفين مِن معتنقي المادية العلمانية، ومعادي الإسلام كدولة وشريعة. (الدولة بيْن الإسلام والمدنية الحديثة؛ علاء بكر).
ولما كان الحديث حول هذا الموضوع طويلاً ومتشعباً؛ لكثرة المتدخلين فيه تارة بجهل؛ وتارات أخرى بتعالم وهوى؛ خاصة من أصيب من العلمانيين  -بما أسماه شيخ الإسلام مصطفى صبري- بالتطفَّل للأمم، الذي يورث الوهن في العقيدة؛ ارتأينا فتح هذا الملف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *