عندما يتهافت الباطل وينطق شيطان الغرب بالحق عبد المغيث موحد

إن من أكبر الأخطاء الفاحشة التي وقع فيها الغرب وهو يستقرئ عبر نافذة الإستشراق الماكر المجهود الدعوي لنبينا عليه الصلاة والسلام، وتعاطيه الشريف لتكوين دولة المدِينَة وإرساء قواعد الحكامة الإسلامية، هو إغفاله لحقيقة أن محمدا لم يورث الإنسانية منهجا قويما ونظاما عادلا فاضلا فحسب، بل وعد أهل الأرض بأن هذا المنهج قد خصه الله بإيجاد وبث الغرس الذي يستعمله للتمكين لسبيله، ويحارب به سبل الباطل محاربة نصرة وظهور وغلبة إلى أن تقوم الساعة، ولأننا مسلمون فليس أمامنا شك أو ريب أمام هذه المسلمة العقدية، بل إننا نملك من المبررات العقلية والنقلية التي يزكيها الواقع يوما بعد يوم ما هو كفيل بنقل هذا التسليم من درجة الإيمان إلى منزلة الاطمئنان التي لا يملك المرء معها إلا أن يستغرب الأسباب الكامنة وراء إغفالنا لهذا الدواء الرباني ونحن المرضى المعلولون، واستعسارنا لسبيل اليسر وجعله معرة تحيل على التكلف والتخلف والاستعاضة عن الجاهز الفاعل البسيط بالمركب الغريب اللقيط.
والواقع الذي ليس له دافع، أن هذه الأخطاء التي وقع فيها الغرب، قد نجد ما يسوغها، مثل: النظر إلى النية المدخونة لرواد الاستشراق ومقاصدهم المغرضة عند التعاطي لرسالة الإسلام، وكذا عدم نسيان أن الغرب وهو يحاول هفوا أن يوسع نفوذه على الأرض ومواردها؛ لا ينسى أن يجتر تركة تاريخنا المبارك. يوم انتشر الإسلام خارج بؤرة موقده الأول، ليلج ولوجا عقديا وليضم إلى سلطانه أراضي الإمبراطورية البزنطية وجغرافية الحكم القوطي في شبه الجزيرة الإيبيرية..
بينما نبقى مشدوهين أمام نخبنا المهجنة أبناء الجلدة!! خريجي ثقافة الاستغراب، الذين لم يكتفوا بركوب موجة الحداثة المزيفة، وصهوة التبشير للعولمة، وسجاد الانبطاح للوافد الغربي، انبطاح جعل عميد الأدب العربي سابقا يستثقل في كلامه النطق بكلمة “الحضارة العربية الإسلامية”، مستعيضا عنها ببدع من القول مفاده: “حضارة حوض البحر الأبيض المتوسط”، فاتحا القوس أمام إخوانه من رضاعة لبان الاستغراب ليشاطروننا التاريخ بعدما سلبوا منا الأرض، واغتصبوا العرض، وأخذوا جزية الفرض لتطبيب ما أسموه “بالرجل  المريض”.
نقف وقفة ألم وحسرة ونحن نرى الغرب، وإن كان يجتر تاريخنا اجترار حقد وضغينة، فهو لا ينكر ولم ينكر يوما عبر هذا الاجترار معقولية أن يقف وقفة اعتراف وطأطأة هامة، أن أجداده كانوا يدفعون الجزية لأسلافنا عن يد صاغرة نظير الإطعام من الجوع والأمن من الخوف في أيام عز قد خلت.
نتألم ونتحسر على نجاح خَلَفِ الغرب في خلق جيل مستنسخ، خرج من أرحام القانتات المؤمنات، لا يكتفي بالانبطاح السالف الذكر، بل يتعداه ليصف عين أيام عزنا تلك بالوراء والجهالة والظلامية، وبالمقابل نجده قد غلا في بدعة التسامح وحوارات التطبيع وهرطقات التطويع، التي يدور معها الفعل وردُه بين سمعنا وأطعنا؛ طاعة أدخلتنا إلى بورصة المصالح الاستعمارية التي تؤثث بنا أروقتها التجارية، حيث لا ترى فينا كمسلمين إلا مادة خاما لصناعتها المتطورة، وسوقا جائعا لتصريف بضائعها الباهرة، ومصدرا غنيا بأيد الكدح الرخيصة لمعاملها الضخمة، وجبانة واسعة لوأد أزبالها النووية..
فيا ليت شعري؛ أي مزايدة وأي غلو، إذا قلنا: أنه أصبح في حكم اليقين الذي يسقيه الواقع بماء المعاينة لمخططات الغرب التي أخفتها صدورهم رَدْها من الزمن، متوارية خلف الابتسامة النمطية، والدمعة التمساحية، والإعانات الملغمة، وقد خرجت اليوم إلى حيز وجودنا معربدة على ظهر دبابة مدوية، وعلى جناح طائرة حربية نفاثة، تصاحبها بعثات ثقافية تعلمنا نمط الحياة البهيمية، ونظام الأكلات السريعة، وتنقلنا من البدائية واللاحضارة إلى الحضارة والمدنية التي أسها ضنك العيش خارج دائرة الفضيلة، وأساسها الحرية في معناها الإضافي الراعن والذي يقارع مبادئ دين الإسلام ليجتثها من نفوس المسلمين، ويعري مظاهر الحياة العامة من حلية الحياء وأستار العفة، ويعهر الأصالة، ويستنسخ تجاربه المقيتة بخلق تفاعل نكد بين الذكورة والأنوثة باسم المساواة والحقوق المدنية المشبوهة، يتم كل هذا، وإناء قومتنا ينضح بلوك كلمات: حوار الحضارات، حوار الأديان، فتح أفاق التسامح والقبول بهذا الآخر، قبول ذوبان وانصهار في حوجلته الشيميائية الماكرة.
إننا والحال هكذا لا يمكن أن نقرأ مهادنته للبعض من كلنا غير المصمت، سوى أنها مهادنة مصلحة، أو مهادنة لقوي مسبوقة باستسلام وتنازل، أو مهادنة عن ضعف منه وعدم استطاعة منا، أو أنها مهادنة تعطيه هامشا زمنيا يلملم من خلاله شتات أنفاسه الغضبية، ويهيكل قطع غيار آلته العسكرية المدمرة، ليكر علينا باسم الحماية تارة، وبجيشه الجرار تارة أخرى ليروضنا، ونحن دويلات صغيرة لازال مشروع تقسيم المقسم منها وتوزيع الموزع فيها قائما باسم نعرات الأقليات المرتدة، أو ما بات يصطلح عليه في أجندة الامبريالية العالمية باسم الحق التاريخي للشعوب الأصلية في الانفصال السيادي المارق، الذي خرج أول ما خرج من رحم العلمانية، فتبنته لصوصية الغرب التي لا نبرئها من الافتراء والتزوير، ولا نستغرب منها المجادلة بالباطل لدحض الحق، ولا نستبعد منها محاولتها المقنعة لردم منابع الإسلام، وهدم جداول رسالته العصماء من ألف الشعيرة إلى ياء الشريعة، ولا نستكثر عليها الإنفاق ببذل وسخاء دائب غرضه تفريخ أجيال ملحدة تتولى التفويض المأجور واللسان العربي المسطور، لطرد عرى الإيمان من تجاويف القلوب المخبتة وإشاعة الفحشاء والمنكر في أوساطنا الطيبة الطاهرة باسم التطور والمعاصرة، والتصدي بقوة شكيمة لقوى الخير صناع الحياة الطيبة، في محاولة منها إلباسهم حلة التهم الجاهزة؛ تهم الإرهاب والتطرف والظلامية.
وإذا ما فشل مشروعهم هذا، وانقلبت الجماهير على رموزه العلمانية الشاذة، وتهافتت المنظومة الفاسدة، خرج علينا الغرب وأطل علينا بتباك خفي واستبشار نفاقي، ليقر أنه كان ولم يزل مع مصالح الشعوب الإسلامية حريصا على نهضتها، وأنه لطالما أخلص النصيحة لأبنائه بالتبني وخدام أعتابه العلمانية، ليعملوا العدل وينشروا الفضل ويحققوا العيش الكريم لكل موحد وموحدة، وهي عين لعبة الشيطان إذا ما تراءى الجمعان، ورجح عنده فوز أولياء الرحمان، فرّ هاربا، وولّى مدبرا، ووقف ليبرئ نفسه من وطأة الملام، كما قال ربنا عز وجل مخبرا عن موقفه هذا: “وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم“.
ألا بعدا لإبليس، ألا بعدا لأوليائه من أهل المكر والتدليس، ألا بعدا لعلمانية الإفلاس والتبئيس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *