هذه الشهادة عبارة عن تقرير لرجلين لم يكونا متعاطفين مع العثمانيين المسلمين بل كانا متعصبين للأرمن وجاءا إلى المنطقة على خلفية جاهزة سلفاً؛ أن الأرمن شعب مستضعف ارتكب المسلمون مجازر جماعية بحقه حسب المعلومات المستقاة من وسائل الإعلام الغربية المضللة! ومن المبشرين البروتستانت الأمريكيين الذين لم يكونوا جديرين بالثقة كلياً كشهود على معاناة المسلمين حيث كانوا بارعين في تدوين أعمال ضد الأرمن بتفصيل كبير، ولم يكونوا كذلك في تدوين أعمال عنف ضد المسلمين كما ذكر ذلك بعض المؤرخين!
إنهما النقيب “إموري نيلز”، و”آرثر سذرلاند” الأمريكيين، أمرتهما حكومة الولايات المتحدة الأمريكية باستقصاء الوضع في شرقي الأناضول، كان تقريرهما سيستخدم أساسا لمنح معونة من اللجنة الأمريكية لغوث الشرق الأدنى، كان الرجلان فريدين تماما كما يقول “مكارثي”، ونزلا منطقة الأناضول وتجولا في جميع أنحاء المنطقة وسمعا شهادة الطرفين، وفوجئا بحجم التزوير والتلفيق الذي اقترفه الأرمن وصعقا من هول معاناة المسلمين، ومن الجرائم الفظيعة التي ارتكبها الأرمن بحق المسلمين! ونشرا ما شاهداه وسمعاه وليس ما أملاه عليهما تطرفهما.
كانت تلك ظاهرة نادرة لدى الأمريكيين في الأناضول، ولما لم يرق التقرير الحكومة الأمريكية تم استبعاده، ولهذا السبب لم يضمَّن تقريرهما وثائق لجان التحقيق الأمريكية، ولا يمكن العثور في المحفوظات الأمريكية إلا على نسخة جزئية من التقرير، مخبأة جيدا بين وثائق ذات صلة بمواضيع مختلفة تماما، وقد قام مكارثي بنشر هذا التقرير سنة 1994م ثم نشره في كتابه (المسلمون والأقليات)! وأعاد نشره في كتابه (الطرد والإبادة).
تقرير (نايلز وسذرلاند):
جاء في تقريرهما: “المنطقة الممتدة من (بتليس) عبر (وان) إلى (با يزيد) أُخبرنا بأن الضرر والتدمير في كل هذه المنطقة كانا من فعل الأرمن الذين استمروا في احتلال البلد بعد أن انسحب الروس، والذين دمروا كل شيء يخص المسلمين مع تقدم الجيش التركي، علاوة على ذلك، اتُهم الأرمن بارتكاب أعمال قتل واغتصاب وإحراق عمد للممتلكات وأعمال وحشية رهيبة من كل وصف ضد السكان المسلمين.
كنا في البداية في ريب كبير بشأن تلك الروايات، لكننا توصلنا في النهاية إلى تصديقها، لأن الشهادات كانت بالإجماع بكل ما في الكلمة من معنى وجرى تأييدها بالأدلة المادية، على سبيل المثال، كانت الأحياء الوحيدة التي ظلت سليمة في مدينتي (بتليس) و(وان) أحياءً أرمينية، كما كان جَليّاً من الكنائس والكتابات على البيوت، بينما كانت الأحياء المسلمة مدمرة على نحو كامل، لا تزال القرى التي قيل إنها كانت أرمينية قائمة، بينما كانت القرى المسلمة مدمرة كاملة” اهـ (مكارثي: الطرد والإبادة ص:250).
ومن أبلغ الأدلة التي قدمها “نايلز” و”سذرلاند” في تقريرهما إحصائية تعداد القرى والبيوت المسلمة الناجية من جحيم الحروب حول مدينتي (وان) و(بتليس)، حيث دمر الأرمن أكثر بيوت المسلمين، ولم يبق أثر لجميع المباني العامة والمنشآت الدينية الإسلامية؟! كما هو موضح:
ففي مدينة (وان) كان عدد منازل المسلمين قبل الحرب 3400 منزل بينما لم يبق إلا 3 منازل بعد الحرب 1919م، أما عدد منازل الأرمن فكان 3100 قبل الحرب وبقي من منازلهم 1170 منزل بعد الحرب 1919م.
أما مدينة بتليس فكان عدد منازل المسلين فيها هو 6500 منزل بينما لم يبق منزل واحد بعد الحرب 1919، أما عن الأرمن فكان عدد منازلهم 1500 قبل الحرب وبقي منها 1000 منزل بعد الحرب 1919م.
أما عن القرى في إقليم (وان) وسنجق) و(با يزيد) قبل الحرب والاحتلال الأرمني وبعدهما فجاء في إحصائية نايلز وسذرلاند: أن تعداد منازل المسلمين قبل الحرب في قرى إقليم وان كان (1373) منزلاً وانخفض بعد الحرب في 1919م إلى 350 منزلاً!! بينما كانت منازل الأرمن 112 منزلاً قبل الحرب فزادت بعد الحرب إلى 200 منزلاً! وفي قرى إقليم با يزيد كان عدد منازل المسلمين قبل الحرب 448 منزلاً صارت بعد الحرب في عام1919م 243 منزلاً! بينما منازل الأرمن كانت قبل الحرب 33 منزلاً ظلت كما هي بعد الحرب 33 منزلاً!
وقد لخص “نايلز” و”سذرلاند” تاريخ مسلمي شرق الأناضول بدقة في ختام تقريرهما:
“ومع أنها لا تقع ضمن مجال تحقيقنا تماماً، إلا أن إحدى أبرز الحقائق التي أثرت فينا في كل بقعة من بتليس إلى طربزون هي أن الأرمن ارتكبوا ضد الأتراك في المنطقة التي اجتزناها كل أنواع الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها الأتراك في مناطق أخرى ضد الأرمن. كنا نشك في البداية إلى حد بعيد بالروايات التي أخبرنا بها، لكن إجماع الشهود جميعهم، واللهفة الجلية التي تحدثوا بها عن الأعمال الشريرة التي ارتكبت بحقهم، وكراهيتهم الواضحة للأرمن.
والأقوى من ذلك كله الأدلة المادية على الأرض نفسها، جعلنا نقتنع بصحة الحقائق على نحو عام، أولاً إن الأرمن قتلوا مسلمين على نطاق واسع وبتفنن كثير في أسلوب الوحشية، وثانياً إن الأرمن مسؤولون عن أكثر التدمير للمدن والقرى.
احتل الروس والأرمن البلاد فترة طويلة في عام 1915م وعام 1916م ويبدو أنه خلال تلك الفترة كانت الفوضى محدودة، مع أن الروس من غير ريب تسببوا بأضرار.
وفي عام 1917م انحل الجيش الروسي تاركاً السلطة في أيدي الأرمن وحدهم. في تلك الفترة طافت على البلاد عصابات من الجيش الأرمني النظامي فنهبت وقتلت السكان المدنيين المسلمين.
وحين زحف الجيش التركي إلى أرزنجان وأرضروم ووان، تفككك الجيش الأرمني وانكب جميع الجنود النظاميين وغير النظاميين على تدمير ممتلكات المسلمين وارتكاب الأعمال الوحشية ضد السكان المسلمين، كانت النتيجة بلداً مدمراً كاملاً يحتوي على ربع عدد سكانه السابقين وثمن مبانيه السابقة، وكراهية مريرة إلى حد بعيد من المسلمين للأرمن، ما يجعل عيش هذين العنصرين معاً مستحيلاً في الوقت الحاضر.
أعلن المسلمون أنهم إذا أجبروا على العيش في ظل حكومة أرمينية فإنهم سيقاتلون، ويبدو لنا أنهم ربما ينفذون هذا التهديد. يشاركنا في هذا الرأي الضباط الأتراك والبريطانيون والأمريكيون الذين قابلناهم”اهـ (مكارثي ص253، ص254(.
هذه مجرد شهادة عن المجازر التي ارتكبها الأرمن ضد المسلمين خلال الحرب العالمية الأولى من 1914م إلى 1918م في إقليمي (وان) و(بتليس) شرق الأناضول فما بالنا لو تكلمنا عن نقصان عدد السكان المسلمين في الأقاليم العثمانية الشرقية مجتمعة.