لماذا يثير الغرب تهمة إبادة الأرمن الآن؟

كان الموقف الغربي بالمجمل طوال العقود الماضية -في الفترة التي كانت فيها تركيا بعيدة عن تراثها وهويتها، وباحثة عن التحالف مع الغرب والكيان الصهيوني، ورافضة للارتباط بالمجتمع المسلم الدولي- يميل إلى وصف ما حدث للأرمن في نهاية الدولة العثمانية أنه كارثة، ويرفض فكرة أن توصف تلك الأحداث بأنها كانت إبادة عرقية أو ما شابه.
وتبنت الجمعيات الصهيونية والكيان الصهيوني الفكرة نفسها الرافضة لفكرة الإبادة. ويؤكد ذلك الكاتب البريطاني الأصل والصهيوني المزاج «برنارد لويس»، في عدد من الدراسات والكتب حول تلك الكارثة، وهو الذي لا يعرف بتعاطفه مع العالم المسلم بأي شكل من الأشكال.
ورغم أن الأمم المتحدة أعلنت أنها لا تعتبر ما حدث في تركيا في بداية القرن «إبادة عرقية»، وهو الموقف الدولي الرسمي من تلك الأحداث حتى الآن وعلى مدى تسعة عقود كاملة؛ إلا أن أوروبا والكيان الصهيوني وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية قد بدؤوا في تغيير مواقفهم في الآونة الأخيرة بناء على حسابات إستراتيجية جديدة.
أوروبا تريد عرقلة دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولذلك أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً عام 1987م ينص على أن الأحداث التي جرت للأرمن عام 1915م ـ1917م كانت عملية إبادة جماعية، وفقاً لمعايير الأمم المتحدة عام 1948م، وربط انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي باعترافها بالمذابح الجماعية للأرمن، ولكن بدون تبعات سياسية، أو قانونية أو مادية.
ومع الوقت بدأت فرنسا الرافضة لدخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في استخدام ورقة الضغط نفسها، ولذا كان برلمانها هو أول برلمان نادى باعتبار ما حدث في تركيا مع الأرمن «إبادة عرقية».
فقد أرادت الجمعية الوطنية الفرنسية عام 2006م تقديم مشروع قرار يطالب بمعاقبة كل من ينكر إبادة الأرمن على أيدي العثمانيين في 1915م.
أما الكيان الصهيوني فقد كان يرى أهمية المصالح الإستراتيجية مع تركيا طوال العقود الماضية، حتى تولى حزب العدالة والتنمية سدة الحكم في تركيا حيث تغيرت العلاقة وتبعها تغير الموقف الصهيوني من ملف الأرمن.
وفي الأعوام الأخيرة بدأ الكيان الصهيوني يستشعر الخطر من ميول حزب العدالة والتنمية إلى دعم القضية الفلسطينية، والابتعاد التدريجي لتركيا عن التحالف مع ذلك الكيان، وظهر على الفور من ينادي داخل ذلك الكيان بفتح ملف «الإبادة» ضد تركيا اليوم!
ثم تسبب نهوض تركيا من كبواتها الاقتصادية وعودتها التدريجية إلى التعاطف مع قضايا العالم المسلم، واستعادة هويتها الإسلامية؛ في قلق الدوائر الأمريكية من هذه النهضة، وهو ما يعني السعي نحو تحجيم التطور التركي، وهو ما استدعى بشكل مباشر البحث في ملفات الماضي عما يمكن أن يحجم تلك النهضة.
وفي عام 2007م تبنى الكونغرس الأمريكي قراراً حول الإبادة، ولكن الرئيس السابق جورج بوش أجّل التوقيع عليه إلى أن غادر البيت الأبيض حرصاً على عدم دفع العلاقات الإستراتيجية بين بلاده وتركيا إلى مزيد من التوتر والسوء.
ومؤخراً أقرت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي قراراً يؤكد «الإبادة» بغالبية صوت واحد فقط. وقد أقرت اللجنة الأمريكية مشروع قرار الاتهام بأغلبية 23 صوتاً مقابل 22، جاء فيه:
«أن الجمهورية التركية الحديثة قامت على أنقاض الدولة العثمانية التي عملت خلال السنوات (1915-1923م) على تهجير الأرمن من قراهم ومدنهم التي كانوا يسكنون فيها في شمال الأناضول وجنوبه، بتهمة (التحالف مع روسيا)، وأن هذه الممارسات التركية (توجت بإبادة جماعية) بحق الأرمن».
لقد تفهم اللوبي الأرميني التغير في المزاج الأوروبي والأمريكي الهادف إلى تحجيم انطلاقة تركيا، ونجح إلى حد كبير في المناداة بفكرته في دول الغرب كلها، وبعض دول أمريكا الجنوبية واللاتينية التي تتركز فيها الجاليات الأرمينية من أصول لبنانية وسورية وتركية أيضاً.
وقد قامت الدول التالية -وعددها 19 دولة- بتمرير قرارات عبر برلماناتها تشير إلى أن ما حدث بين الدولة العثمانية وبين الأرمن في بداية القرن الماضي كان بشكل ما يعد «إبادة عرقية».
وهذه الدول هي: الأرجنتين وبلجيكا وفرنسا وهولندا وسويسرا وإيطاليا وكندا ولبنان وروسيا وسلوفاكيا والأوروجواي واليونان وقبرص اليونانية وبولندا وألمانيا وليتوانيا وشيلي وفنزويلا. وهناك مشاريع قرارات في برلمانات الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا وأستراليا.
واستعراض تلك الدول يؤكد التوافق غير المعلن بين الغرب وبين اللوبي الأرمني الذي يعمل جاهداً على استمالة أوروبا الغربية بالعموم ضد تركيا، وكذلك يحاول الاستفادة من الضغط على دول أمريكا الجنوبية لوجود جاليات أرمينية مؤثرة بها لتشكيل نوع من الضغط الدولي باتجاه تبني الموقف الأرميني من القضية.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *