من روائع الأدب العربي: بكائية مالك بن الريب إعداد: ذ إبراهيم أبوالكرم

الموت كأس كل الناس ذائقها، إلا أن نظرتهم تجاه هذه الحقيقة تختلف، فمع أن كل حي يؤمن بالموت، لكن كل حي يتصوره تصورا يختلف فيه مع الآخر، والشعراء لِفيَضَان شعروهم وأحاسيسهم، وجمالية تعابيرهم، ورقي أساليبهم، يأبون إلا أن يبصموا بصمتهم في كل شيء، ويعبروا عن وجدانهم تجاه كل شيء، حتى ولو كان حدثا لن يشهدوه إلا مرة واحدة ثم لا رجوع، فإنهم يحاولون أن يرسموا لوحة ذلك المشهد كما يتصورونه.
وإذا كان كل حي يتوق إلى الحياة ويأبى الموت، وهذه حقيقة طبائع الأحياء، فإن الشعراء يتشبثون بالحياة مع أنهم يعرفون ألا مفر منها، وعند هيجان شعورهم وهواجسهم بالموت؛ يسارع كل أحد منهم أن يرصد الموت قبل أن يرصده، وأن ينشب أظفاره فيه وإن كانت أظفار الموت أسرع إلى ذلك، محاولين إخلاد آثارهم، وإن لم تخلد أجسامهم، هكذا يفكر الشاعر، وهنا نلتقي مع من ميز الكتابة الأدبية عن غيرها بميزة الخلود، فالكتابة العلمية أو غيرها آنية لحينها، تقرأ مرة واحدة وربما مرتين أو أكثر حتى يؤخذ مضمونها ثم تلقى، لكن الأدب شعره ونثره؛ يحاول البقاء والاستمرار، وتتداوله الألسنة وتحفظه القلوب، وتطرب به الأنفس وتلتذ كلما قرأته أو قرئ عليها.
وتكاد أشعار الشعراء عن الموت تملأ الدواوين قديما وحديثا، وكثيرا ما يسارع أحدهم إلى رثاء نفسه، تحسبا ألا يقوم أحد بذلك الواجب تجاهه. ومما حفظته لنا كتب الأدب قصيدة مالك ابن الريب.
شاعر إسلامي مجيد مقل، لم يشتهر من شعره إلا بكائيته ومقاطع شعرية في الوصف والحماسة وردت في كتاب الأغاني.
كان مالك شابا شجاع فاتكاً لا ينام الليل إلا متوشحاً سيفه، ولكنه استغل قوته في قطع الطريق هو وثلاثة من أصدقائه، لازم شظاظ الضبي الذي قالت عنه العرب: ألص من شظاظ. وحبس بمكة في سرقةٍ، فشفع فيه شماس بن عقبة المازني، فاستنقذه وهو القائل في الحبس:
أَتَلْحَقُ بالرِّيْبِ الرِّفاَقُ ومالِكٌ … بمَكَّةَ في سِجْنٍ يُعَنِّيه راقِبُهْ
ومرَّ عليه سعيد بن عثمان بن عفان وهو متجه لإخماد فتنة تمرد بأرض خراسان، فاستجاب مالك لنصح سعيد، والتحق بجيشه، وأبلى بلاءً حسناً وحسنت سيرته، وفي عودته بعد الغزو وبينما هم في طريق العودة إلى وادي الغضا في نجد وهو مسكن أهله، مرض مرضاً شديدا، ًأو يقال إنه لسعته أفعى وهو في القيلولة فسرى السم في عروقه وأحس بالموت، فقال هذه القصيدة:
أَلاَ لَيْتَ شِعري هَلْ أبيتَنّ ليلةً … بجَنبِ الغَضَا، أُزجي القِلاص النّواجِيا
فَلَيتَ الغَضَا لم يقطَعِ الركبُ عَرضَهُ … وليتَ الغَضَا مَاشىَ الركابَ لَياليِا
لقد كان في أهل الغضا، لو دنا الغضا، … مزارٌ، ولكنّ الغضا ليْسَ دانيا
أَلمْ تَرَني بِعتُ الضّلالةَ بالهُدى، … وَأَصْبَحْتُ في جيشِ ابنِ عفّان غازيا
دَعاني الهَوى من أهل وُدّي وصُحبتي … بِذِي الطَّبَسَين، فالتفتُّ وَرَائِيا
أَجَبْتُ الهَوَى لَمّا دَعَاني بِزَفْرَةٍ، … تَقَنّعْتُ مِنْهَا، أنّ أُلامَ، ردائيا
لَعَمْري لئن غالتْ خُراسانُ هامَتي … لقد كُنْتُ عن بابَيْ خراسان نائيا
فللّه درّي يَوْمَ أَتْرُكُ طائعاً … بَنيّ بأَعْلى الرّقمَتَيْنِ، وماليا
ودَرُّ الظّباءِ السّانِحاتِ عَشِيّةً، … يُخَبّرْنَ أني هالِكٌ مِن وَرَائِيا
وَدَرُّ كَبيرَيَّ اللّذين كِلاهُمَا … عَليّ شَفيقٌ، ناصِحٌ، قد نَهانِيا
وَدرُّ الهَوَى من حَيْثُ يدعو صِحَابَهُ، … وَدَرُّ لَجاجاتي، ودَرُّ انتِهائيا
تَذَكّرْتُ من يَبْكي عليّ، فلمْ أَجِدْ … سِوَى السَيْفِ والرّمحِ الرُّدَينيّ باكيا
وَأَشْقَرَ خِنْذِيذٍ يَجُرّ عِنَانَهُ … إلى الماء، لم يتْرُكْ لَهُ الدهْرُ ساقيا
ولَكِنْ بِأَطْرَافِ السُّمَيْنَة نِسْوَةٌ، … عَزيزٌ عَلَيْهِنّ، العشيّةَ، ما بيا
صَرِيعٌ على أيْدِي الرّجَالِ بِقَفْرَةٍ … يُسَوَّوْنَ قَبْري، حَيْثُ حُمّ قضائيا
وَلَمّا تَرَاءَتْ عِنْدَ مَرْوٍ مَنيّتي، … وَحَلَّ بِهَا جِسْمي، وَحَانَتْ وَفَاتِيا
أَقُولُ لأصْحابي ارْفعوني لأنّني … يَقِرّ بِعَيْني أن سهَيلٌ بَدَا لِيا
فيا صاحبَي رحلي! دنا المَوْتُ، فَأنزلا … بِرابِيَةٍ، إنّي مُقِيمٌ لَياليِا
أَقيما عليّ اليَوْمَ، أو بَعْضَ ليلةٍ، … ولا تُعْجِلاني قد تبيّنَ ما بِيا
وَقوما، إذا ما استُلّ روحي، فهيّئا … ليَ القبرَ والأكفانَ، ثُمّ ابكيا ليا
وخُطّا بأطْرَافِ الأسِنّةِ مضجعي، … ورُدّا على عَيْنَيَّ فضلَ ردائيا
ولا تحسُداني، باركَ اللَّهُ فيكما، … من الأرْضِ ذَاتِ العَرضِ أن توسِعاليا
خُذَاني، فجُرّاني بِبُردي إليكما، … فقد كُنْتُ، قبل اليوم، صَعباً قياديا
فقد كنتُ عطّافاً، إذا الخيلُ أدْبَرَتْ، … سَريعاً لدى الهَيْجا، إلى مَن دعانِيا
وقد كُنْتُ محموداً لدى الزّاد والقِرَى، … وعنْ شَتْمِ ابنِ العَمّ وَالجارِ وانِيا
وَقد كُنْتُ صَبّاراً على القِرْن في الوَغى، … ثَقِيلاً على الأعداء، عَضْباً لسانيا
وَطَوْراً تراني في ظِلالٍ وَمَجْمعٍ، … وَطَوْراً تَراني، والعِتَاقُ ركابيا
وَقُوما على بِئْرِ الشُّبَيكِ، فأسمِعا … بها الوَحْشَ والبِيضَ الحسانَ الروانيا
بِأَنّكُما خَلّفْتُمَاني بِقَفْرَةٍ، … تُهيلُ عليّ الرّيحُ فيها السَّوافيا
ولا تَنْسَيا عَهْدي، خَليليّ، إنّني … تَقَطَّعُ أوصالي، وَتَبْلى عِظامِيَا
فلنْ يَعْدَم الوِلْدَانُ بيتاً يَجُنُّني، … وَلَنْ يَعْدَمَ الميراثَ منّي الموالِيا
يقولون: لا تُبْعَدْ، وهُم يدفِنونني، … وأيْنَ مَكانُ البُعْدِ إلاّ مَكانِيا؟
غَدَاةَ غَدٍ، يا لَهْفَ نَفْسي على غدٍ، … إذا أَدْلجوا عني، وخُلّفتُ ثاويا
وَأَصْبَحَ مالي، من طَريفٍ، وتالدٍ، … لِغَيْري وكان المالُ بالأمسِ ماليا
فيا ليْتَ شعري، هل تغيّرَتِ الرّحى، … رحى الحْرب، أو أضْحت بفَلج كماهيا
إذا القْومُ حلّوها جميعاً، وأَنْزَلوا … لها بَقراً حُمَّ العيونِ، سواجِيا
وَعِينٌ وَقَدْ كان الظّلامُ يَجُنّها، … يَسُفْنَ الخُزامي نَورَها والأقاحيا
وَهَلْ تَرَكَ العيسُ المَرَاقيلُ بالضّحى … تَعَالِيَهَا تَعلو المُتونَ القَياقيا
إذا عَصِبَ الرُّكْبَانُ بَيْنَ عُنيزةٍ … وبُولانَ، عاجُوا المُنْقِياتِ المَهَاريا
ويا لَيْتَ شعري هل بَكَتْ أُمُّ مالكٍ، … كما كُنْتُ لَوْ عَالَوا نَعِيَّكَ باكيا
إذا مُتُّ فاعْتَادي القُبُورَ، وسلّمي … على الرَّيمِ، أُسقيتِ الغَمامَ الغَواديا
تَرَيْ جَدَثاً قد جَرّتِ الرّيحُ فوقَه … غُباراً كلونِ القسْطَلانيّ هَابِيا
رَهِينة أَحْجَارٍ وتُرْبٍ تَضَمّنَتْ … قَرارَتُها منّي العِظَامَ البَوالِيا
فيا راكِباً إمّا عَرَضتَ فبلّغَنْ … بني مالكٍ والرَّيْبِ أنْ لا تلاقِيا
وَبَلّغ أخي عِمران بُردي وَمِئزَري؛ … وبلّغ عَجُوزي اليومَ أن لا تدانيا
وَسَلّمْ على شيخيّ مِنيّ كِلَيْهِما، … وبلِّغ كَثيراً وابْنَ عمّي وخَاليا
وعطِّل قَلوصي في الرِّكاب، فإنّها … ستُبرِدُ أكباداً وتُبكي بَواكِيا
أُقَلبُ طَرْفي فَوْقَ رَحْلي، فلا أرَى … بِهِ من عُيُونِ المُؤْنِساتِ مراعِيا
وبالرَّملِ منّي نِسْوَةٌ لو شَهِدنَني، … بَكَيْنَ وَفَدّيْنَ الطّبيبَ المُداويا
فمِنْهُنّ أُمّي، وابْنتاها، وخالتي، … وباكِيَةٌ أُخرى تَهِيجُ البَواكِيا
وما كانَ عَهْدُ الرّمْل منّي وأهلِه … ذميماً، ولا بالرّمْل ودّعْتُ قَاليا

الغضا: نوع من الشجر.
أزجي القلاص: أي أسوق فتية الإبل.
فالشاعر يخلد ذكرى المكان الذي أحس أنه يريد احتضان جسده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *