خطوات الاستدلال بالأدلة عند أهل السنة والحديث “ضبط الترتيب بين الأدلـــة1” رشيد مومن الإدريسي

المراد بالترتيب بين الأدلــة:
“جعل كل دليل في رتبته التي يستحقها بوجه من الوجوه”.
طريقة الترتيب بين الأدلة:
الترتيب بين الأدلة إما أن يكون عن طريق السند أو عن طريق المتن أو لأمر خارج عنهما.

أولا: الترتيب عن طريق السند:
– يقدم الأكثر رواية على الأقل في الأصل، لأن قول الجماعة أقوى في الظن وأبعد عن السهو والغلط، وأنأى عن الكذب.
يقدم الأعلى سندا على الأنزل منه، والمعنى أنه إذا تعارض دليلان، (ولم تكن هناك إمكانية للجمع ولم تتوفر شروط النسخ)، أحدهما كان إسناده عاليا أي: قلت الوسائط بين الراوي المجتهد، وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلاف الآخر فإنه يقدم على معارضه -في الأصل- عند جمهور المحدثين والأصوليين وذلك لأنه كلما قلت الرواة كان أبعد عن احتمال الغلط والكذب، وكلما كان أبعد منهما كان أقرب إلى الصحة، وأقوى في الظن اتصاله برسول الله صلى الله عليه وسلم.
– تقديم رواية صاحب القصة والمباشر لها على الأجنبي عنها، وذلك أن الراوي المباشر أو صاحب القصة أعرف بالموضوع، وأعلم بالقضية من غيره، فروايته -في الأصل- أقرب إلى الحق، و القلب أميل إلى قبولها.
مثال ذلك: روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج ميمونة وهو مُحرم (متفق عليه)، وميمونة بنت الحارث -رضي الله عنها- خالت ابن عباس رَوَت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوجها وهو حلال (رواه مسلم)، وأبو رافع الرسول -أي الواسطة- بينها وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- روى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تزوجها وهو حلال (رواه الترمذي وانظر الإرواء)، فتُقدم رواية ميمونة لأنها صاحبة القصة.
وقد ذهب من رجح رواية ابن عباس -لأنها في “الصحيحين” على رواية ميمونة لأنها في “صحيح مسلم”- إلى أن نكاح المحرم حرام إلا لرسول -صلى الله عليه وسلم- وجعل ذلك من خصائصه.
ونحن نقول: نعم، هو من خصائصه لولا ما هو أقوى منه، وهو حديث ميمونة نفسها وحديث السفير بينهما وهو أبو رافع”.
ثــانياً: الترتيب عن طريق المتن:
وحقيقته أن يكون جنس أحد الدليلين أقوى من جنس الدليل الآخر.
يقدم القرآن على السنة، والسنة على الإجماع والقياس، ويقدم الإجماع على القياس.
وأما الإجماع فبعض من أثبته قدَّمه على القرآن والسنة، وبين شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، أن القول بتقديمه عليهما خطأ، لأن حجيته هي حيث كونه دليلا على النص لا لذاته، فإذا علمنا النص صراحة كان النص أقوى.
تقديم المنطوق على المفهوم؛ وذلك لأن المفهوم يصدق بصورة واحدة وهي: ما يتفق فيه المنطوق والمفهوم.
تقديم النص على الظاهر لقوته، ولأنه لا يحتمل معنى آخر يحمل النص عليه، فعدم الأخذ به يؤدي إلى إبطال محتواه تماماً، وعدم استعماله بالكلية، بخلاف الظاهر حيث يمكن حمله على خلاف ظاهره سواء كان بتقييد مطلقه، أو بتخصيص عمومه، أو بتعيين أحد محتملاته، أو نحو ذلك.
مثال ذلك: زكاة الحلي، فقد ورد فيها حديث خاص، وورد فيها حديث عام.
الحديث الخاص: في قصة المرأة التي أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإخراج الزكاة عنها، حيث توعدها بالنار إذا لم تؤد الزكاة (صحيح) فهذا نص خاص.
والحديث العام: قوله صلى الله عليه وسلم: “ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها..” (رواه مسلم).
فعندما نستدل لإثبات الحكم في هذه المسألة بأن نبدأ بالخاص لأنه نص في الموضوع، إذ أن العام يمكن للمعارض أن يقول: “خرج من عمومه كذا وكذا”، لكن النص الذي يخص هذا الشيء بعينه لا يمكن المنازعة فيه إلا في ثبوته إذا كان يمكن النزاع في ثبوته، وعليه يقدم النص على الظاهر.
ثالثـــا: الترتيب لأمر خارج
تقديم المثبت على النافي، لأن المثبت معه زيادة علم، فالنافي قد ينفي الشيء لعدم علمه، لا لأنه شاهد عدمه، والمثبت يثبت لعلمه بوقوع الشيء، ولهذا نقول يقدم المثبت على النافي، لأن معه زيادة علم فيؤخذ، فإذا جاءنا حديث ينفي وقوع هذا الشيء وجاءنا حديث آخر يثبت وقوعه، فالمثبت مقدم على النافي2.
يقدم المقتضي للحضر -في الأصل- على المبيح لكونه أحوط.
تقديم ما عمل عليه أكثر السلف -في الأصل- أو الخلفاء الراشدون الأربعة على ما ليس كذلك.
مثالــه: تقديم الرواية التي روت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- البسملة سراً في الصلاة على الرواية التي تروي جهره -صلى الله عليه وسلم- بها (على القول بصحتها)، لأن الرواية الأولى معضدة بعمل الخلفاء الراشدين.
تنبيـــه:
قد يختلف العلماء -رحمهم الله- في صورة من صور الترتيب في أي قسم تدرج، كمسألة تقديم الحاضر على المبيح؛ فبعضهم يدخلها في باب الترتيب عن طريق المتن، وكذلك تقديم القول على ما عداه من الفعل والتقرير؛ فبعضهم يجعلها من باب الترتيب لأمر خارج والبعض الآخر يجعلها من باب الترتيب عن طريق المتن فتنبـــه.
………………………………………….
1. بعض العلماء يسمي هذا المبحث بمبحث (الترجيح) وهذا نوع تسامح وتجوز في التسمية، ذلك لأن الترجيح هو فرع عن التعارض، وهذا الأخير حاصل في مجال الظنيات أما الترتيب بين الأدلة فهو أعم من ذلك، مع العلم “أن بعض الأصوليين ألزموا بجعل هذا الباب من قبيل الترتيب بين الأدلة لأن حقيقته تقديم ما هو أعلى رتبة، وليس ذلك ترجيحاً إذ لا تعارض بين مختلفي الرتبة حتى يحتاج إلى الترجيح” انظر الواضح في أصول الفقه (273).
2. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم” الفتح 1/27.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *