بين سوريا (حافظ) وسوريا (بشار)

لم يحفظ حافظ سوريا بل ضيعها كما شهد بذلك التاريخ، ولم يبشر بشار إلا بمزيد من التجويع والقتل والتشريد، ولنا أن نسائل التاريخ عما سودته أيدي الأسدين، وما أنجزاه لسورية الحرة. والخلاصة التي نقدمها قبل النهاية أن ما يقوم به الشبل من قتل شعبه إنما هو مسلسل بدأه أبوه وأوفى الإبن بالوصية لإتمامه.

سوريا حافظ
فالأسد الهالك قد لطخ يده بأودية دماء الشعب السوري خاصة السني منهم، فإن ظُلامات كالجبال ما تزال ماثلة فوق كل حبة من تراب سورية، ولن تتاح للرجل إعادة هذه الظلامات إلى أهلها؛ فهو رهين ما قدم، وقد سمَّاه الغوغاء الأبَ القائدَ في الوقت الذي حرمَ فيه عشرات الآلاف من الأطفال من آبائهم الذين قتل منهم من قتل، وسجن منهم من سجن، وشرد الآلاف منهم حتى لم تعد منطقة في الأرض تخلو من سوريين يقرأ العالم في عيونهم مرارة التشريد، على حين تُفتَح سورية على مصراعيها لليهود العائدين إلى دمشق للمساهمة في بناء سورية الأسد!
ولم يكن لهؤلاء المواطنين من ذنب سوى أنهم لا يؤيدون طغيانه وجبروته، وما زال حتى الآن الآلاف من أهل السنة قيد سجونه، ولا يُدرى عن كثير منهم أأحياء هم أم أموات؟
وقد حدثني بعض السوريين ممن لقيت أنه من البديهي في أذهان الناس هناك أن من نطق بكلمة سني، يعتبر قد ارتكب جريمة يستحق عليها السجن والتعذيب وربما فوق ذلك، فضلا عن أن يتمسك بنهج السلف، ويجب ألا ننسى هنا آلاف العلماء الذين لولا فرارهم من أرضهم، لانفصلت رؤوسهم عن أجسادهم، أمثال العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، ولا يزال الكثير منهم إلى الآن منهم يدعو الله أن يعجل بهذا الظالم كما عجل بأمثاله، وينتظر اليوم الذي ستكتحل فيه عينه برؤية أرضه وأقربائه. كما حدثني مغاربة كانوا في سوريا أن الشعار المعروف عن سجون الأسد: الداخل إليه مفقود، والخارج منه مولود.
ولن ينسى التاريخ أن سبب سقوط القنيطرة السورية في أيدي اليهود إنما كان بسبب الأسد الأكبر بعد البلاغ العسكري المباغث الذي أصدره بوصفه وزيراً للدفاع وقتها، أصاب الجنود المتقدمين في الجبهة في مقابلة العدو الصهيوني بالذهول؛ فالقنيطرة خلفهم وهذا يعني في العرف العسكري أن اليهود قد قاموا بحركة التفافية عليهم، ولم يبق أمامهم إلا الاستسلام للعدو أو الفرار من المعركة غير المتكافئة، وزاد الوضع العسكري للجنود السوريين إرباكاً حين أُتبع بلاغ سقوط القنيطرة بأمر عسكري آخر من حافظ الأسد يقضي بالانسحاب الكيفي للجيش، الشيء الذي أحرز به الأسد الهالك لقب (بائع الجولان)!
وإذا تركنا ذكر تلك الأيام السوداء من عمر سورية، وتوجهنا للتعرف إلى ملامح السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية؛ فلسوف نرى العجب العجاب.
فكلها في عهد الأسد الأول كانت معطلة وإن كان لها مجلس ولوائح وأعضاء يقبضون مرتباتهم الشهرية وعلاوات التصفيق للرفيق القائد؛ فليس على المجلس الموقر إلا صياغة الرغبة الرئاسية التي كانت تضمِّخ كل تشريع أو قرار بعبارة: «بناءاً على كذا.. وبناءاً على توجيهات السيد رئيس الجمهورية الرفيق المناضل نقرر ما يلي..».
أما الشعب السوري الذي قيل عنه يوم كان تعداده خمسة ملايين نسمة بأنهم خمسة ملايين رئيس جمهورية فقد تحول خلال ثلث قرن من الطغيان المتعمد المنظم إلى ألاَّ تجد فيه فرداً واحداً بلغ الأربعين ربيعاً من عمره في الأول من يناير عام 2000م يصلح أن يكون رئيساً للجمهورية؛ فبُحِث في أبناء الـ 39 صيفاً فلم يُعثَر فيهم على من يصلح للمنصب، فتداعى العدد نزولاً حتى استقر المؤشر عند أبناء الأربعة والثلاثين خريفاً، فدُووِل بينهم وكانت المفاجأة التي أعادت الثقة إلى النفوس أن واحداً من هذا الجيل -واحداً فقط- تبين أنه يتوفر على الصفات المؤهلة له ليحمل أمانة إنقاذ الأمة من الانقراض ويجنبها وصاية الأمين العام للأمم المتحدة؛ لينادى باسمه! بشار الأسد.
لن نتحدث عن متاعب المبعدين عن الوطن المشردين بين أقطار الدنيا الأربع، ولن نتحدث عن مآسيهم، ولو من خلال جوازات السفر المحجوبة عنهم، وعن أولادهم الذين ولدوا في الشتات، ولن نتحدث عن الذين طلبوا العودة إلى سورية بلدهم وأرضهم، فرُفضت طلباتهم في أبشع إجراء ودون أي تعليل للرفض سوى عبارة: (مع عدم الموافقة).
فلا تلوموا الصهاينة إذا رفضوا عودة الفلسطينيين إلى ديارهم! فحكومة قلعة الصمود والتصدي الطائفية تقف الموقف نفسه من المشردين السوريين في أقطار الدنيا! وقد لا تعتلي وجهَ أحد من رجال السلطة ممن قد يقرأ هذه الحقيقة حُمرةُ الخجل؛ فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الذين جف ماء الحياء فيهم حين قال: «إنما أدرك الناس من النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت».
ولن نتحدث عن تجويع الشعب السوري وحرمانه من الغذاء والدواء وإفقاره وإذلاله..
ولن نتحدث عن الراشين والمرتشين والرائشين بينهم..
ولن نتحدث عن مجازر مدينة حماة التي بلغ عدد الضحايا من سكانها على أقل التقديرات 20 ألف مواطن من العزل الذين لم يساهموا في أي نشاط ضد الحكومة الطائفية..
ولن نتحدث عن الدور المعدّ الذي توجهت فيه قوات النظام إلى لبنان للقضاء على الحركة الوطنية اللبنانية التي كان يقودها أحمد الخطيب، وللغاية الأهم وهي إخراج آخر فدائي فلسطيني يعكر مزاج الصهاينة من أرض لبنان!
ولن نتحدث عن دك مخيم تل الزعتر على رؤوس سكانه من الفلسطينيين نساءاً وأطفالاً وشيوخاً.
فمهما تقمص الطائفيون من أشكال، ومهما لبسوا من أقنعة، وبأي لغة تحدثوا فهم عراة إلا من حقيقتهم فإنهم لن يخرقوا الأرض ولن يبلغوا الجبال طولاً {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.

سوريا بشار
لم يخرج بشار عن شيء من مخطط أبيه، بل تتبعه بحذافيره وبالغ في تطبيقه، وفيما تورده القنوات الفضائية نقلا لما تصوره أعن الجوالات شاهد على ذلك، أما السياسة الداخلية فلم تتغير في شيء وهو ما يصرح به كثير من القادة والوجهاء الذين أعلنوا انشقاقهم عن بشار وجيشه.
عادة ما يخاف الناس من الثور حين يهيج، لكن الظلمة من الحكام باتوا اليوم خائفين من أنثاه، وهي التي استطاعت أن تطيح بأمكن وأقدم وأحنك من بشار، فما إن هبت رياحها حتى ظهر بشار في القنوات مرتبكا خائفا، وذلك بعدما رأى مصير إخوانه وكان آخرهم طاغية ليبيا.
تقدمت الثورة وتطورت وأعلن الجيش الحر مواجهته، ومضت مسرحية المعارضة المصطنعة، وعقدت اجتماعات لزعماء الدول هنا وهناك، لكن الميدان هو الناطق الرسمي، فالميدان أصدق أنباء من الاجتماعات والندوات والتنديدات واللقاءات، وسل أبناءه يحدثوك عن الفرق بين الجد واللعب، ومضت الثورة في صلابتها، وازداد ارتباك النظام السوري، حتى همس بعض شياطنه إلى الرئيس باستفتاء شعبي عن إصلاح الدستور، لكنها محاولة باءت بالفشل، ولم تَعْدُ أن تكون تغطية لضوء الشمس بالأصبع.
وفي جديد ما يدور في سوريا يطلع علينا المستشار والقاضي خالد الواوي في حوار مطول لجريدة «الوطن» الكويتية؛ فيصرح أنه وأشقاءه الثلاثة النقيب عمار الواوي قائد المنطقة الشمالية لجيش سورية الحر المنشق، والرقيب مصعب من الدفاع الجوي، وصف الضابط حسام الواوي من الأمن الجنائي بالداخلية السورية، انشقوا عن النظام لأنه لا يمكن لأحد يحمل ذرة من ضمير أو خلق أن ينحاز إلى صف القتلة الذين يقتلون أبناء الشعب السوري ويقمعونه ليل نهار.
وكشف القاضي خالد شبيب في حواره الكثير من أسرار النظام السوري القانونية والتشريعية، وأسرار ارتباط عمليات حزب العمال الكردستاني بسورية وحزب الله وعلاقة السلطة في سورية بالتفجيرات والاغتيالات في العراق، مشيرا إلى أن «العصابة الحاكمة» في سورية أفسدت كل شيء، وأن الإصلاح غدا مستحيلا. ولم تعد المشكلة في إصدار تشريعات جديدة أو قوانين تحت أي مسمى، وإنما في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي تتحكم في كل شيء، وفي رأس النظام «الديكتاتور» الذي يملك كل شيء ويترأس كل الأجهزة والوزارات.
وكشف القاضي المنشق أنه لا توجد عصابات مسلحة في سورية كما زعم ذلك الرئيس، فإن حافظ الأسد فرَّغ سورية تماما من أي سلاح، وإنما هي عصابات شكلها النظام من الزبالين والعاطلين عن العمل وتجار المخدرات الذين أطلقوا سراحهم من السجون كي يقتلوا الشعب السوري وينشروا الرعب والفوضى في أرجاء سورية.
الصلاة ممنوعة في ثكنات الأسد:
ولفت إلى أن شهداء وأسرى حماة ضاعت حقوقهم وصودرت عقاراتهم، واستبعدوا من الوظائف والتعليم حتى درجة القرابة الرابعة، في حين صدر قانون في سورية لحماية أملاك اليهود ومنازلهم بحيث ترد إليهم فور مطالبتهم بها.
وصرح القاضي أن الصلاة ممنوعة في الثكنات العسكرية، وأن أي شخص يلتزم بتعاليم دينه يوصف بأنه من الإخوان المسلمين ويعتقل أو يستبعد تماما. وقد أطلقت سراح جندي جيء به إليّ لأحقق معه بتهمة «الصلاة في المعسكر»، فقلت لمن جاء به: هل الصلاة تهمة.. ألا تصلي كل الفرق الإسلامية؟
فقال لي: يا أستاذ.. كلكم -يقصد أهل السنة- إخوان مسلمين حتى يثبت العكس، وإثبات العكس يكون بأن تتخلى عن أي مظهر من مظاهر انتمائك للإسلام وليس الإخوان المسلمين، وحتى في هذه الحالة يقولون عن هذا الشخص اللامنتمي: إنه يمارس التقية أكثر منا!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *