قراءة في الفصل الثالث لمعاهدة الحماية أو حين يحكمنا الأعداء بأبناء جلدتنا

في 30 مارس 1912، وقع سفير فرنسا رينو، وسلطان المغرب عبد الحفيظ، معاهدة الحماية، و بموجبها أصبحت فرنسا هي الحاكم الفعلي للمغرب، ويسهر السلطان على تنفيذ سياستها، وتحمل تبعات إشباع رغباتها ونزواتها وأطماعها، وقد اشتملت المعاهدة على تسعة فصول، تناولت ثمانية منها أطماع ومشاريع الاستعمار الفرنسي، التي سيحققها بالتعاون مع السلطان، أو بعبارة أدق، سيستغل المستعمر اسم السلطان وطابعه وصورته وسلطانه، ويختبئ وراءه، لتحقيق أطماعه. في حين تم تخصيص الفصل الثالث للثمن الذي سيتقاضاه عن الخدمة التي سيقدمها للمستعمر، ومما جاء فيه:

تتعهد الحكومة الفرنسية بأن تبذل المساعدات لجلالته دائما ضد كل خطر يهدد شخصه أو عرشه أو سيقلق راحة ولايته، وسيلقى من جانبها نفس التأييد لوارث العرش ولتابيعه من بعده.

وهكذا خصصت المادة لحماية شخص الحاكم وعرشه وسلطانه وحكمه. و كل تلك المؤامرات لفرنسا الاستعمارية، الساعية للسيطرة على المغرب وإخضاعه، كانت تفعلها باسم الحاكم، فكانت من جهتها تضمن له الحكم، فيطلق هو يدها طوعا أو كرها، رغبة أو رهبة في فعل ما تشاء، فقد يضع الحاكم نفسه وجيشه رهن إشارة الأجنبي، فيكون بمثابة الوكيل المنفذ لسياسته وقانونه، وقد يكون هذا الحاكم في حكم المأسور لضعفه وعجزه، فيتكلم الأجنبي بلسانه ويوقع بطابعه وختمه.
لقد قامت فرنسا الاستعمارية العلمانية، بكل تلك المؤامرات و فعلت ما فعلت من إجرام وإرهاب، نيابة عن دول الغرب العلماني المتحضر وبمساعدته، كل ذلك إنما يتم تحت عنوان واحد هو، الحفاظ على وحدة البلاد، أو الحفاظ على سيادة السلطان، وضمان عرش السلطان. فقد أرسلت الحكومة البريطانية رسالة إلى ممثلها في طنجة، سنة 1845، تقول:” يجب أن يكون هدفنا الدائم أن نبذل كل ما في وسعنا في سبيل دعم حكم السلطان، وأن نحول دون كل حادثة قد تؤدي إلى تعريضه لخطر جديد”. وعقد المولى عبد العزيز في بداية حكمه معاهدة مع فرنسا، أعلنت فيها احترامها لوحدة الإمبراطورية الشريفة، ووعدت فرنسا وإسبانيا في اتفاقهما سنة 1904، على احترام وحدة المغرب في ظل سيادة السلطان، وأكد رئيس الوزراء الفرنسي للسفير الألماني سنة 1905، بأن حقوق فرنسا في المغرب، متسقة تماما مع مبادئ سيادة السلطان واستقلاله ووحدة إمبراطوريته، ولما زار قيصر ألمانيا وليم الثاني طنجة سنة 1905، قال للمولى عبد الملك عم المولى عبد العزيز، الذي استقبله:” إنني أزور سلطان المغرب الملك المستقل …إنني أعتبر السلطان ملكا مستقلا استقلالا تاما، وإنني أرغب في الوصول إلى تفاهم معه بالذات…”. وقامت قرارات مؤتمر الجزيرة سنة 1906، على أسس ثلاث:
سيادة جلالة السلطان واستقلاله
وحدة ملكه
الحرية الاقتصادية بدون تمييز
لم يكن للسلطان وجود إلا على عرش المغرب1، لقد كان ألعوبة في يد العدو، الذي كان يسن القوانين ويخرج القرارات، لمحاربة الدين وظلم المسلمين باسم ولي أمر، لم يكن له من الأمر شيء، وكان للمقيم العام وحده الحق في تقديم المقترحات في الأمور التشريعية، وما كان السلطان ليوقع الظهير إلا بناء على رغبة المقيم العام، يحكي روم لاندو عن الجنرال كاترو قوله:” أما السلطان ، وهو المعزول في قصره والذي لا يعرف إلا أمورا سطحية مما 2ينقله إليه مستشاره الفرنسي، فلم يكن يعرف شيئا عن المشاريع إلا عندما كانت توضع أمامه بشكل مراسيم تتطلب توقيعه” .
كما أرسل ليوطي تقريرا لحكومة بلاده سنة 1920، قال فيه:” جميع الإجراءات الإدارية تجري باسمه ) باسم السلطان (، فهو الذي يوقع المراسيم. لكن في الواقع ليس له أي قوة حقيقية، واتصاله الوحيد هو مع المستشار الشريفي، الذي يقابله يوميا، وهذا كل ما في الأمر. والحقيقة أن الاسترشاد برأيه إنما هو قضية صورية فقط، إن الوزير الأكبر والوزراء لا يشتركون في المشاورات في القضايا الهامة، إذ أن هذه الأمور يبحثها الموظفون الفرنسيون، غير عابئين بوجهة نظر المغاربة، وليس ثمة أي تبادل في المذكرات…3 ” .
أما في منطقة طنجة الدولية، فإن السلطان كان له ممثله هناك الذي لم يكن سوى موظف تحت إشراف الفرنسيين. أما في المناطق الإسبانية، فقد كان الخليفة الذي هو ممثل السلطان الرسمي، يعمل تحت إمرة السلطات الإسبانية، التي كان بإمكانها رفض اختيار السلطان، وتعيين من تراه صالحا لمصالحها، كما فعلت مع مولاي المهدي ابن عم السلطان. وبعد كل من المولى عبد العزيز والمولى عبد الحفيظ والمولى يوسف، تجلى بوضوح حكم الأجانب، عن طريق حاكم من بني جلدتنا يتسمى باسمنا ويتكلم بلساننا، بعد أن نصبت فرنسا السلطان ابن عرفة فحكم المغرب مدة سنتين، كان فيهما ولي أمر المغاربة الذي تجب عليهم طاعته واحترامه، فأطلق الأعداء أيديهم في استخدام اسم السلطان وطابعه لتنفيذ سياساتهم الظالمة، ورعاية مصالحهم ورغباتهم الجشعة وإصدار مراسيمهم وقوانينهم المخالفة للشرع، بعد لي أعناق نصوص الوحيين وفتاوى علماء السوء. وهذه نقطة أخرى مهمة لا يجوز إغفالها عند الحديث عن مؤامرات الغرب العلماني، وتسلطه وحربه علينا قديما وحديثا، وأعني توظيف الدين لإخضاع المسلمين وقمع المعارضين، وهو أمر لا يقل خطورة عن توظيف الحكام والشخصيات والحكومات، لخدمة أهداف الأعداء. فقد استعملت فرنسا العلمانية الاستعمارية، الدين بوسائل وأشكال شتى، كإنشاء المجالس العلمية 4 وتكريم رؤسائها والاحتفاء بهم، وتقريب العلماء الموالين لها ورفعهم 5، وتوجيه البيانات والمنشورات للقبائل، لحثهم على قبول الأمر الواقع وإبعاد أي فكرة لجهاد فرنسا من رؤوسهم مستعينة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، أو إعداد خطب الجمعة التي تلقى باسم السلطان في وجوب طاعة أولي الأمر، الذين لم يكونوا حينها إلا المستعمر نفسه، أو استعمال وسائل الإعلام العميلة والموالية لها، لنشر الشبه وتشكيك المسلمين في قضيتهم وعقيدتهم.
في فترة ما بعد الاستقلال، وبعد أن تعددت دوائر ومراكز القرار وتنوعت، ولم يعد الحاكم الفرد هو المؤثر الوحيد، وأصبحت الأحزاب العلمانية، والمراكز العلمانية، والإعلام العلماني، هي التي تصيغ العقليات وتوجهها، بعد أن مكن لها الغرب، وأمدها بكل أساليب الدعم، فأصبحت أبواق الغرب وأدرعه الضاربة، التي تمارس ذلك الدور، بشكل سافر، بل تفتخر وتتبجح بذلك.
أصبح العلمانيون وكلاء الاستعمار الثقافي بامتياز، وطابورا خامسا يدمر البنية الفكرية والثقافية والعقدية للمسلمين، وقنوات صرف لكل طوام ومصائب وفضائح وعاهات وأعطاب الحضارة الغربية العلمانية.
كانت هذه نظرة عامة عن مؤامرات الغرب الاستعماري العلماني، ومحاربته لعقيدة المسلمين ونهبه لخيراتهم، طيلة أزيد من قرن من الزمان، ودوره في إحلال العلمانية مكان الشريعة، وتمهيده لزرع أذنابه ممن يحملون مشروعه ويرعون مصالحه، من العلمانيين بشتى توجهاتهم ومشاربهم، نضعها بين يدي القاريء والمهتم والمتابع، بعد قرن من بدأ تنزيل فصول المؤامرة وتطبيقها، نتوقف عند النتائج التي تحققت، لنستخلص الدروس والعبر.

——————
1- العبارة لعبد الكريم غلاب في “مذكرات سياسية وصحفية”.
2 – تاريخ المغرب في القرن العشرين ، ص 117
3 – المصدر السابق، ص 118.

4 – حيث سعت فرنسا لهيكلة الحقل الديني من خلال تأهيل القرويين وتحديثها، وينقل إدريس كرم في مقدمته على إظهار الحقيقة ص 83، أن ليوطي أنشأ المجلس العلمي بتاريخ 17 ماي 1914م، وأسند إدارته للقبطان ميلي.

5 – فقد قلد ليوطي رئيس المجلس العلمي وشيخ الجماعة بفاس أحمد بن الجيلالي وسام الشرف، وعلق له على رقبته صليبا؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أنظر مقدمة إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة ص41.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *