يوميات مدرس جديد ذ.إبراهيم أبو الكرم

عام دراسي جديد، ومنجنيق الوزارة يفلح في نفي فوج آخر من الأساتذة؛ وتبدأ قصة الاغتراب.
..عقارب الساعة تشير إلى الثانية ليلا؛ لم يغمَض للأستاذ الجديد جفن، فقد تغير عنه المرقد، وانكسرت نفسه، وتبددت آماله على أحجار منطقة التعيين، وضاعت في فيافيها القاحلة.
تمر ساعات ليله وهو يستعرض مراحل دراسته، أطوار اجتهاده، صور تألقه في ندوات حضرها، وشهادات تقدير له في تكوينات ولقاءات شهدها، ثم يعود فكره إلى ما آل إليه، فينظر في الظلام؛ لا أفق للحياة.
كان في عام تكوينه فائقا كل أقرانه، ينتظر بكل شغف جزاءه الجميل، يتطلع إلى تعيين جيد يتمكن معه من إتمام دراسته، وتوطيد علاقاته مع الثقافة وأهلها، لكن القدر الحكيم جره إلى ما جره إليه، فيحس بأنه مغبون أيما غبن، وأنه مخدوع كل الخداع. كثيرا ما أحب أن يكون أستاذا مربيا للأجيال؛ لكنه سخط كل السخط على الأساتذة والمعلمين، وحنق على وزارتهم، حتى تمنى ألو كان غبيا، فيتعزى ببيت الجرجاني الذي طالما ساقه استخفافا لكنه يراوده اليوم حقيقة:
كبِّر على العلم يا خليلي ومِل إلى الجهل ميل هائم
وكن حمارا تعش سعيدا فالسعد في طلع البهائم
يتدور الأستاذ الجديد على فراش مستضيفه، ويجفو جنبه عن مضجعه، لا يزال هدير محرك الحافلة يهز عروق رأسه، ولم تنفك عن ذهنه بعد ضوضاء المحطة وصياحها. ويتمثل ببيت الملك الضليل:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل
اجتثته الحافلة من منبته كارها، وحملته بعيدا عن أهله وبلده، كانت الحافلة ممتلئة عن آخرها، حتى الحقائب سخرت كراسي لجلوس الراكبين في الممر الذي بين الكراسي، كان الظلام دامسا، والأستاذ ينسج قصة حزن يتبادل خيوطها مع زميله الذي كان شريكه في القدر المحتوم، لم يبق لهما منصب في الحافلة إلا درجها الشاغر.
بدأت الرحلة والأستاذان يتداولان الحديث بينهما، كانا يتساءلان عن فائدة إجلاء الأساتذة عن مدنهم، لماذا يعينون أستاذا من أقصى الشمال في أقصى الجنوب، مع أن آخر من أقصاه قد رموه في أقصى الشمال؛ يجيب أحدهما: ربما لتتحرك عجلة الاقتصاد.
الآخر: ألا يجدون بم يحركون عجلته إلا بنا نحن؟!
الأول: أنا أريد أن أعرف هل ستبقى للأستاذ والحالة هذه رغبة للتدريس، وهل سيحس بنشاط في عمله. وهم مع ذلك يريدون جودة التعليم.
الآخر: مع أنه لا فرق بين أستاذ في المجال الحضاري، بآخر في المجال القروي، فالعناء للقروي والامتياز للحضاري.
الأول: لعلهم يريدون أن نتدرب في أولئك المساكين، قبل أن ندخل إلى المجال الحضاري.
الآخر: أليس أولئك مغاربة لهم نفس الحقوق.
الأول ساخرا: ألم تسمع بالمغرب غير النافع فأنت تتجه نحوه..
كان الصمت يسود الحافلة، لا يكسره إلا تهامس الأستاذين الجديدين. يلجم الحزن أفواههما لساعات ثم يعودان للكلام، فيقترحان كما شاءا، ويقرران في بنود قانون التعليم ويغيران ويقترحان. ثم تعود التساؤلات الساخرة:
الأول: لعلّهم يريدون إبعادنا حتى لا نكمل دراستنا.
الثاني: إذن هم لا يريدون النهوض بالتعليم، أليس من حق الأستاذ أن ينمي ثقافته خاصة إن كانت له رغبة في متابعة دراسته؟
الآخر: يريدون أستاذا بأقل تكلفة، كما أنهم يريدون أستاذا بأقل مستوى، فالأساتذة معروفون بنضالهم وشروطهم كلما زادت ثقافتهم.
الأول: لا يريدون ذلك على ما يظهر؛ هم يكرسون الجهل والأمية، ويريدون أستاذا بليدا، يعيش حياته على كتاب التلميذ حتى يصير في مستواه. يقهقه بعض الركاب. وينهي الأستاذان حديثهما بكلام ساخر عن سياستنا التعليمية. ويعود الصمت من جديد.
وتمضي ساعات الليل بين منعرجات الطريق الوعرة، ومنخفضاتها الخطيرة، ومرتقياتها الصعبة، لا يدري الأستاذان منها إلا الاضطراب والارتجاج، تغفو أعينهما حينا، ثم ينتبهان على صوت منبه السيارات، أو على زعزعة فرملة الحافلة.
ومع بداية المنعرجات تبدأ قصة البطون؛ لتلفظ المصارين محتوياتها، فتشرع حركة البحث عن الأكياس البلاستيكية، ويذرع القيء كثيرا من الركاب ممن لم تألفهم بعد هذه الطريق، فكأنها تختبر ما تحتويه بطونهم لتستفرغها مما فيها من سموم.
في ذلك الظلام لا يدري الكثير أين يتقيأ، لكنه عند الصباح تظهر رسوم البقع على الملابس وفرش الكراسي، وتظهر الأوجه متجهمة تعلوها القترة؛ أما في الليل فلا تكاد تحس إلا بما تسمعه من آعات، وما تشمه من فنون الروائح المعلومة.
أدى الأستاذان ضريبة هذا السفر، كما الركاب، فأسكتها صوت مساعد السائق بكلام سوقي فظ غليظ، لم تألفه أذنا الأستاذين.
يقترب الصباح، وتبدو معالم الطريق، وتظهر ملامح الأستاذ لزميله من بين سواد الليل، فتتبدى الأوجه مكفهرة شاحبة وتنتهي الليلة الأولى من ليالي العناء.
تقف الحافلة على مدخل طريق ثانوية، فتغادر وقد خلفت الأستاذين وراءها تحت ضباب دخانها. المكان شبه خال، سيارات أجرة دون أصحابها، نخل كثيف على جنبات وادي درعة باسق بنظرته كأنه يحرس المكان، مقهى وحيد يبدو مقفلا تملأ ساحته كراسيه، كوخ شبه خرب مكتوب عليه بخط سوقي: مرحاض درهم واحد. قصده أحد الأستاذين فلاذ بالفرار من خبث ما رأى وما شم فراغ إلى الفضاء. وفي جو هذا الصباح نسيم ينعش النفس لولا أرجال من البعوض تنغص راحة ضيف المكان.
انتظار طويل.. أعقب قطيعة غير متعمدة بين الزميلين، فطول الطريق أذهبت نكهة المحادثة.
تتبع القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *