رفض أئمة علماء أهل السنة المنطق الأرسطي المشائي ضمن رفضهم لفلسفة اليونان ومقاومتهم لها، ومن جملة من دافع عن المنطق المشائي ودعا إليه أبو محمد بن حزم الأندلسي الظاهري وأبو حامد الغزالي والمؤرخ شمس الدين بن خلكان وتاج الدين السُبكي الشافعي، وخامسهم المؤرخ الفقيه عبد الرحمن بن خلدون (ت 808 هـ)، وقال: إن الناس أقبلوا عليه وفرّقوا بينه وبين الفلسفة، وقال عنه: إنه قانون ومعيار للأدلة، وعلم (يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة، من الأمور الحاصلة المعلومة، وفائدته تمييز الخطأ من الصواب، فيما يلتمسه الناظر في الموجودات وعوارضها، ليقف على تحقيق الحق في الكائنات).
وقوله هذا غير صحيح وفيه مبالغة في تعظيم المنطق لا مبرر لها، جعلته لا يذكر سلبياته والمعارضين له، ويقول: أن الناس أقبلوا عليه، لكنه في موضع آخر من مقدمته انتقد المنطق الأرسطي، ونقض قوله السابق بقوله: (ومن هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط، لكثرة ما فيها من الانتزاع، وبعدها عن المحسوس).
وسادسهم ابن حجر الهيثمي المكي (ت 973هـ)، زعم أن المنطق اليوناني آلة من آلات فهم العلوم الشرعية، من فقه وحديث وتفسير، وهو كالعلوم العربية في أنه مواد أصول الفقه.
وسابعهم حاجي خليفة (ت 1067 هـ)، زعم أن المنطق هو حاكم على جميع العلوم في الصحة والسقم، والقوة والضعف، وهو أصل كل علم وتقويم كل ذهن. وآلة في تحصيل العلوم الكسبية النظرية والعملية، لذا سماه الفارابي رئيس العلوم، وسماه ابن سينا خادم العلوم، وسماه الغزالي معيار العلم. ثم أيد من قال: إن صنفين من الناس يستغنيان عن المنطق، الأول المؤيد بنور الله، والثاني من علمه ضروري، وأما ما عداهما من أصناف الناس فيحتاجون للمنطق الأرسطي.
ويُلاحظ عليه أنه لم يُفرّق بين المنطق الطبيعي الفطري في الإنسان، وبين المنطق الأرسطي المشائي الصوري، الذي كان سائدا في زمانه بين كثير من أهل العلم؛ فإذا قصد بقوله المنطق الأول، فهو كلام صحيح إلى حد كبير، وأما إذا قصد به منطق أرسطو وهو الأرجح، فهو زعم باطل تنقضه حقائق التاريخ والشرع، والواقع والعلم، وهذا ما سنبينه في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
وأما زعمه أن كل الناس يحتاجون للمنطق ما عدا صنفان منهم فقط، فهو الآخر كلام باطل من أساسه، والصواب هو أن كل الناس الأسوياء مستغنون عن منطق اليونان، ولا تتوقف عليه حياتهم العلمية ولا العملية، بدليل أن أهل العلم في زماننا يُقدرون بالملايين، ولم يتوقف علمهم على العلم بالمنطق الأرسطي، بل توقف على الجهل به، لأنه من المعروف أن معظمهم لا يهتم به ولا يبالي به وأكثرهم لا يفهمونه. وهذا المنطق لا مكانة له اليوم بين مناهج البحث في العلوم الطبيعية، ولا الاجتماعية والإنسانية، إلا في مجال محدود للغاية تدرسه أقسام الفلسفة وأصول الدين كوحدة تاريخية ميتة مُقررة على الطلبة.
وآخرهم -أي الثامن- صديق حسن خان القنوجي (ت 1307 هـ)، ذكر أن المنطق أخذ من المتأخرين أوقاتا كثيرة، وأبعدهم عن التعامل المباشر مع الكتاب والسنة. لكنه عاد وأوصى بمطالعة كتب المنطق من مختصرات ومطولات، وزعم أن المنطق أصبح من أهم آلات العلوم في الحلال والحرام، وعليه تتوقف كثير من المعارف.
وتعقيبا على هؤلاء أقول: أولا إن الزعم بأن المنطق الأرسطي هو معيار العلم وقانونه، وأنه عاصم للذهن من الخطأ، هو قول غير صحيح، لأن أهله هم من أكثر الناس خطأ واختلافا، ولم يعصمهم منطقهم من ذلك. ولأن الناس قد عرفوا العلم وبرعوا فيه دون منطق اليونان، قبل أرسطو وبعده. وحتى أرسطو ذاته جاء منطقه ثمرة للمنطق الفطري الطبيعي وليس العكس، وبمعنى آخر أن منطقه جاء ثمرة لعلمه، ولم يكن علمه ثمرة لمنطقه. وعلومنا الحديثة الطبيعية والإنسانية شاهدة على ما نقول، فهي تقوم كلها على المنطق الاستقرائي التجريبي، ولا مكان فيها لمنطق اليونان.
وثانيا أنه من الغريب جدا أن بعض كبار علماء أهل السنة، كابن حزم وأبي حامد الغزالي، قد بالغوا في تعظيم المنطق المشائي تعظيما لا مبرر له شرعا ولا عقلا، ولا تاريخا ولا واقعا. ويبدو لي أن هؤلاء ربما قالوا ذلك في مرحلة من مراحل حياتهم العلمية الأولى، كانوا فيها في حالة قلق وشك، وانبهار بالفلسفة اليونانية، ثم غيروا موقفهم منه. وهذا ما ذكره الذهبي عن ابن حزم من أنه تعاطى المنطق، ثم أعرض عنه وأقبل على علوم الإسلام. وعن الغزالي قال الباحث سامي النشار: أنه -أي الغزالي- ربما يكون غيّر موقفه من المنطق بعدما تبين له التناقض بين الروحّين الإسلامية واليونانية، وبعد تركه لعلم الكلام والفلسفة، وإقباله على طريق المعرفة الصوفية.
وثالثا إن الزعم بأن علوم الشريعة تتوقف على منطق اليونان، وأنه من أهم آلاتها، فهو زعم باطل من أساسه، لأن دين الإسلام دين كامل، ظهرت علومه بظهوره، فأقبل عليها المسلمون دراسة وتدريسا، تقعيدا وتدوينا، منذ القرن الأول إلى القرن الثالث الهجري وما بعده، ولم يكن لهم أي اتصال بمنطق اليونان، وهذا يثبت أنهم لم يكونوا في حاجة إليه البتة، وأن إدخاله في العلوم الشرعية هو خطأ فادح، وانهزامية وسلبية لا مبرر صحيح لها من الشرع، ولا من العقل، ولا من التاريخ، ولا من الواقع، كما أنه إخراج للعقل المسلم من منطقه الفطري الشرعي الطبيعي الواسع، إلى منطق اليونان المشائي العقيم، والضيق المُعوج المعوّق للفكر، والمُذهب للأوقات والجهود، والمُتعب للأذهان والأبدان.