الحرب، بحسب التعريف الشهير لكلاسويتز، هي استمرار للسياسة لكن بطرق أخرى. تُخاض الحروب لإعادة تنظيم السياسة ليستفيد المنتصر ويتضرر المهزوم، وبذلك التعريف نُدرك أن الصهاينة وحلفاءهم من العرب قد فقدوا البصيرة تمامًا حين يتحدثون عن انتصار تم بعد عقد الهدنة، بغض النظر عن وجهات النظر في مآلات الصراع بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والكيان الصهيوني، هناك حقيقة واحدة ثابتة؛ أن دولة الاحتلال قد تعرضت لهزيمة استراتيجية ساحقة. فإذا لم ينهزم الضعيف فقد انتصر، وإذا لم ينتصر القوي فقد انهزم.
فالكيان الصهيوني خاض حربا مدفوعا بضغوط هائلة من محور الانقلاب العربي من أجل هدف واحد وهو القضاء نهائيا على حركة حماس، ونزع سلاحها وتركيعها وتسليم غزة لمحمود عباس، ضغوط مكثفة تحدثت عنها صراحة دوائر صنع القرار الصهيوني.
فقد قال موقع «ديبكا» في نشرته الأسبوعية الأخيرة في غشت المنصرم، إن الحرب الأخيرة على غزة كشفت عن تطور فريد من نوعه في التاريخ السياسي والعسكري لمنطقة الشرق الأوسط: لأول مرة، ضغط زعيم عربي -الرئيس المصري عبد الفتاح السيسى- على الساسة الإسرائيليين المترددين -رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع موشيه يعلون- لاستخدام قوات الدفاع الإسرائيلية لسحق طرف عربي مسلم.
ووفقا لمصادر «ديبكا»، فإن هذا الوضع الشاذ تولد من العلاقات الوثيقة التي نشأت بين السيسي ونتنياهو، ذلك أنهما يتواصلان، في كثير من الأحيان، مرة واحدة أو مرتين في اليوم على خطوط آمنة مثبتة من قبل وكالات استخباراتهما. والرسالة التي كان يحرص السيسي على إيصالها للمترددين من الصهاينة والمتخوفين من توسيع دائرة الحرب البرية: أن الجيش الإسرائيلي لم يضرب بقوة كافية حماس.
ولذلك، إذا أراد نتنياهو أن تنتهي المفاوضات مع حماس الحاكمة في غزة بالسلامة والأمن لجنوب إسرائيل، فإن الأمر متروك له لشن عملية عسكرية قوية تفرض الاستسلام على القادة السياسيين والعسكريين لحماس. وعندما تجثو حماس على ركبتيها، سيتدخل السيسي لإنجاح المسار الدبلوماسي.
فالهدف الإستراتيجي الأول وربما الأوحد للهجوم الصهيوني على غزة هذه المرة كان من أجل فض هذا الجيب الوحيد المقاوم للأبد ونزع سلاحه وإخراجه تماما من معادلة الصراع بين الصهاينة والعالم الإسلامي، لذلك عندما يتكلم القادة الصهاينة عن انتصار أو تحقيق أهداف فاعلم أنها يهزون ويتخبطون كالذي يتخبطه الشيطان من المس. وفي المقابل فإن حماس قد خاضت الحرب ولها أهدافا إستراتيجية مقصودة ومتعمدة من أجل تحطيم العديد من الأوهام التي أحاطت بالقضية الفلسطينية منذ نشأتها، من أبرزها:
تحطيم شعور دولة الاحتلال بأنها دولة طبيعية، فليس من الممكن أن توجد «إسرائيل» كدولة ديمقراطية مزدهرة في ظل ظروف صراعها المستمر، خاصة مع عدم قدرتها على الحفاظ على الوهم الذي تقنع به مواطنيها من أن حياتهم في فلسطين المحتلة تشبه بشكل ما حياتهم لو اختاروا أن يعيشوا في لندن أو باريس أو نيويورك، لقد دمرت حماس هذا الوهم تماما، بعد أن أجبرت خمسة ملايين إسرائيلي على الركض هربا إلى الملاجئ والمخابئ، بعد أن وصلت مدى صواريخها لأقصى بقعة في الكيان الصهيوني، هذه الصواريخ لم تقتل أي شخص بشكل مباشر إلا في حالات نادرة، لكنها أرسلت جميع الإسرائيليين تقريبًا إلى الملاجئ عدة مرات في اليوم، وبددت الوهم القائل بأن «ما يحدث (هناك) لن يؤثر على الحياة (هنا)». ولم يعد الصهاينة إلى بيوتهم إلا بأمر من حماس كما قال أبو عبيدة المتحدث الرسمي باسم كتائب القسّام، ولم تستأنف حركة الطيران إلا بعد إذن القائد محمد الضيف القائد العام للكتائب.
أيضا المقاومة حطمت الوهم السائد بأن إبقاء الضغط على الفلسطينيين لن يكون ذو تكلفة على الصهاينة، لقد تأكد «الإسرائيليون» الآن أن حماس لو لم تكن قادرة على قتلهم، فإنها قادرة على إجبارهم على الدفع باهظًا، تلك الحرب أيضًا رفعت من أسهم القضية الفلسطينية عالميًا، وأكدت على الحقيقة بأن الفلسطينيين هم المضطهدون وأن «الإسرائيليين» هم المعتدون، هذا يمكن أن يؤثر لاحقًا في الضغط على «إسرائيل» من قبل الساسة، وأبلغ دليل على ذلك أن هوليود عاصمة الفن في العالم والتي ظلت منذ نشأتها معقلا للترويج والدعاية للكيان الصهيوني، والدعاية المضادة ضد الفلسطينيين والعالم الإسلامي، لأول مرة يظهر تأييد ظاهر وقوي للقضية الفلسطينية على شكل عريضة وقعها 100 ممثل من جنسيات مختلفة ضد الحرب على غزة، في دلالة بالغة على صدق التحذير الذي وجهه «كيري» للنتن ياهو في أوائل الحرب على غزة بأن «إسرائيل» ستفقد حلفاءها في أوروبا وأمريكا إذا ما أصرت على مواصلة عدوانها على غزة. وبالتأكيد من قبل التحركات الاجتماعية عبر العالم والتي تهدف إلى عزل «إسرائيل» سياسيًا والإضرار بها من خلال المقاطعة الاقتصادية، وقد بلغت خسائر الاقتصاد الصهيوني من عملية الجرف الصامد عدة مليارات من الدولارات.
أيضا حماس حطمت الوهم السائد بأنها ربيبة إيران وأحد أذرعها في المنطقة، وأنه لولا السلاح الإيراني ما صمدت حماس وغزة، ففي ذروة الحرب الدائرة ضد غزة بين «إسرائيل» وحماس، تعمدت الحركة أن تظهر بين حين وآخر أن الترسانة الصاروخية التي تحوزها محلية فلسطينية غزاوية، وأظهرت حماس صواريخ محلية الصنع منسوبة لقادتها المؤسسين، وهي: M75 يصل مداه القدس، R160 قصفت به حيفا، J80 يصل مداه 80 كم، استهدفت جميعها مساحة الكيان الصهيوني.
تصنيع حماس لسلاحها وكشفها عن صواريخ من صنعها وطائرات بدون طيار وبندقية قنص وغيرها من القذائف، واعتراف الصهاينة وخبراء عسكريين غربيين بهذه الحقائق العسكرية الجديدة، أعاد السؤال عن مشاريع التصنيع الحربية العربية، وتحول عديد من مصانع العرب الحربية لإنتاج السلع الاستهلاكية والمعمرة، بل والكعك والحلوى والبسكويت، والفشل في إنتاج أي سلاح فعال في مواجهة الصناعة الحربية «الإسرائيلية» المتطورة، بينما نجحت حركة مقاومة (حماس) في ثلاث سنوات فقط في إنتاج بندقية قنص وعدة أنواع من الصواريخ، وطائرة بدون طيار، بإمكانيات بسيطة لم تصنعها الجيوش العربية بإمكاناتها الضخمة، ما يؤكد قدرتها على صنع أشياء أهم من الطائرة وتوقع مفاجآت أخرى.
أرادت حماس بتفعيل صواريخها المحلية إفشال رهانات بعض العواصم أنها لن تنجح بالمواجهة الحالية دون دعمها، فجاءت المفاجأة صاعقة لهم كما للصهاينة، وعلى عكس حرب غزة 2012، لم تعلن إيران هذه المرة في 2014 أنها تدعم حماس في قتالها ضد «إسرائيل»، ولم تعلن أنها صاحبة الفضل بامتلاكها الصواريخ.
ومن المعلوم أن فتورا سياسيا كبيرا وقع بين حماس وإيران بسبب الثورة السورية والوجه الطائفي الشنيع الذي أبدته إيران وأذرعها هناك.
حماس أنهت وربما للأبد مجموعة الأوهام السائدة عن طبيعة وشكل المفاوضات بين الجانبين الصهيوني والفلسطيني، والتي دائما ما كانت تأخذ شكل الإملاء والاستعلاء وفرض الأمر الواقع، فلم تعد المسارات العقيمة والتفصيلات المملة، والمدد الزمنية الطويلة من أجل تمرير بند واحد فقط، كل ذلك لم يعد يجدي نفعا مع شعب أصبح «الصاروخ» هو متحدثه الرسمي على طاولة المفاوضات، وأصبحت المقاومة هو ممثلهم الشرعي الوحيد.
فالفلسطينيون قد وجدوا أنفسهم لأول مرة منذ بداية الصراع الصهيوني الفلسطيني ممسكين بزمام المبادرة ويتحكمون في مسار المفاوضات بكل استعلاء وصمود، مفاوضات والأصابع على الزناد، لذلك لم يقبلوا بالمبادرة المصرية المذلة والمهينة، ولم يغمدوا سيوفهم إلا بعد أن تحققت شروطهم أو معظمها على الأقل، فالعصف المأكول قد كتب فصلا جديدا مجيدا في العلاقة بين الجانبين، إنها علاقة الند بالند والخصم بقرنه.
وبالتالي فرضت المقاومة قواعد جديدة للعبة مع العدو الإسرائيلي، وأنه سواء تحالفت إسرائيل مع السلطة الفلسطينية وأنظمة عربية انقلابية أو استبدادية ملكية وأمريكا ضد المقاومة أم لم تفعل، ستظل قدرة المقاومة على إيصال الصواريخ لقلب العمق الإسرائيلي هي الفيصل في وضع أي حلول مستقبلية أو تحيد أي مسارات تفاوضية..