لا نزال نسمع بين الفينة والأخرى أن العقوبات في الإسلام لا تتناسب والعصر الحالي بل ولا حتى طريقة تطبيقها، ولذلك يغلب دائماً رغم كل ما قدمناه من إيضاح لاتفاق العقوبة الإسلامية مع العدل أن لا يتقبل الفكر الغربي هذا الإيضاح ويظل عازفاً عنه، والسبب في ذلك أن هناك فرقاً أصولياً في فهم الإسلام للعقوبة وفهم المجتمع الغربي لها يعود إلى الاختلاف في الجذور الحضارية.
فالجذور الحضارية للمجتمع الغربي تعود إلى اليونان، فالرومان، فالعصور الوسطى ثم عصر “التنوير” وما تلا ذلك حتى الحقبة المعاصرة، وجذورها وفلسفتها جميعاً من الإنسان وللإنسان. وليس للدين من دور حقيقي في الفكر الغربي لأن الغرب العلماني تشريعه الجديد هواه، وقد فعل بالمسيحية الأفاعيل ليطوعها طبقاً لمفاهيمه، ونظمه السياسية هي صورة مطورة لما عرضه أرسطو في “السياسة” ما بين ديمقراطية وأرستقراطية وصور من “الأوليجاركية” (وهي حكم الأقلية المتعصبة) بالإضافة إلى الديكتاتورية التي ابتدعها الرومان. ولذا فقد نتجت عنها هذه الأوضاع الحالية للمجتمع الغربي.
وأبرز هذه الأوضاع هو الوضع الديمقراطي الذي هو محل فخر أوروبا ورمز حضارتها، وهو وضع يفترض فيه أن تكون السيادة للشعب ولكن تجربة التاريخ تكرر في الحاضر ما حدث في “أثينا” و”روما” بصورة حديثة.
إن مأساة الحضارة الأوروبية هي أن الإنسان فيها ما أن يبدع شيئاً ليحرر نفسه حتى ينقلب هذا الشيء عليه لأنه يصبح في أيدي “المؤسسات” فعندما اخترع الآلة لتحرره من لعنة الكدح العضلي، تصور “روبرت أوين” أن أربع ساعات عمل ستصبح هي ساعات العمل المقررة، إذ سيمكن للآلات في هذه الساعات أن تغمر السوق بسلع ما كان يمكن للكدح العضلي أن ينجزها إلا بأسابيع عمل طوال.. وتوصل “دافي” إلى مصباحه ليؤمن الفحامين النزول إلى أعماق ينعدم فيها الأكسجين، وتوصل الإنسان إلى الطباعة وإلى الإذاعة وإلى التليفزيون ليثقف نفسه.. الخ.
إن كل هذه النعم استغلت ضد الإنسان، فالرأسمالية أرادت الملايين والبلايين وكان لابد أن تسخر الإنسان ليعمل ثمان أو عشر ساعات أمام الآلات، واستغل أصحاب المناجم مصباح “دافي” فأخذوا يزجون بالفحامين إلى أعماق سحيقة في أمن المصباح، لتنهار عليهم المناجم! أما الإذاعة والتليفزيون فقد أصبحت أقوى وسائل “المؤسسات” في الهيمنة على الفرد وتسييره حسبما تشاء، وأصبحت الكلمة الأخيرة في كافة المجالات للمؤسسات ولما تنتهي إليه المؤسسات من منطلق مصالحها.
لذلك كان لابد أن يحدث هذا ولو لم يحدث لكان اختلافاً كمياً وليس نوعياً لأنه إذا تُرِك الإنسان ونفسه دون هداية من الله فلابد أن يضل، فالغريزة آصلُ وأغلب من العقل، ووهج الشهوات والعواطف والأهواء أشد جاذبية من نور الحكمة، ولحكمة ما سخر الله تعالى الشيطان ليزينها للعباد “قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ”.
وكانت النتيجة أن المجتمع الغربي في تمجيده للحرية والعمل والانطلاق وفتحه الباب للمبادآت الفردية تقبل ضمناً ومن باب الضرورة خلال هذه الممارسات ما يمكن أن يعد سرفاً أو شططاً أو يشارف مستوى الجريمة، إن الجريمة الحقيقة في نظر هذا المجتمع هي السلبية والخمول والفقر، أمّا ما يمكن أن يأتي به العمل والحرية كيفما كانت سلبياته على الفرد والأسرة والقيم، فتظل له فضيلة العمل والإقدام ويمكن أن “يمرره” المجتمع.
وكما أن آليات السوق جعلت من البطالة جزءاً لا يتجزأ من النظام الاقتصادي فإن هذه الآليات جعلت الجريمة أيضاً جزءاً لا يتجزأ من النظام الاجتماعي، وأصبح كلاً من المتعطل والمجرم “ضحية” للنظم يستحق العطف ومن هنا جاءت تلك الصيحة التي تنبعث تلقائياً من قاعة المحكمة عندما تعلن المحكمة تبرئة المتهم “يحيا العدل!” دون تحقيق لما إذا كان العدل هو في تبرئة هذا المتهم أو إدانته.
العمل بالنظريات الفلسفية الملحدة وتشجيع للجريمة
عَمَّق هذه النظرة وأضاف إليها بعداً جديداً عدم وجود المعيار الموضوعي لتقرير العدالة، فالمفاهيم التي تطرحها آليات المؤسسات كلها ذاتية، ويمكن تتبع هذا من “أثينا” فـ”روما” فالحقبة المعاصرة، ففيها جميعاً كانت الفئات المميزة تتمتع بإعفاءات أو حصانات من المحاكمات أو العقوبات، وفيها جميعاً كانت الفئات الدنيا تُحمَّل بأثقال وتجازى بعقوبات أضعاف ما تجازى به الفئات المميزة.
وقد حقق المجتمع الغربي ما دعا إليه “ميكيافيلي” من الفصل ما بين السياسة والأخلاق، كما حقق الفصل ما بين الاقتصاد والأخلاق الذي دعا إليه “آدم سميث” و”مراكس” معاً، وتقبل مقولة “كلاوزفست” عن “أن الحرب هي مواصلة السياسة بوسائل أخرى”، ونتيجة لهذا أصبح الهامش ما بين الخير والشر متآكلاً متداخلاً، ووجدت العدالة الغربية نفسها عاجزة أمام هذا التداخل، تقف كأم لإبن شرير لا يستطيع أن توقع عليه العقوبة العادلة التي يستحقها لأنه -بعد كل شئ- ابنها ولم يكن مناص، والقيم الحضارية الغربية على ما هي عليه اليوم، فإننا نشهد كذلك ظهور الجريمة المنظمة والصور العديدة التي تأخذها “المافيا” والتعاون ما بين بعض العصابات وسياسيين أو أجهزة أو مؤسسات وأخيراً شيوع الفساد بين المسئولين الحكوميين.
الغرب وكابوس الجريمة
وآخر صيحة في هذه المسيرة هي “حقوق الإنسان” التي أضفت شرعية على صور من الانحراف لا يقتصر أثرها السيِّء على ما بين المقترفين لها، كما في العلاقات الجنسية الشاذة، ولكن أثرها يمتد إلى الآخرين فيما تحمله من عدوى تنقل الأمراض إلى الأبرياء الآخرين، أو حرية حمل السلاح وما تغري به من عدوان أو حرية إدمان المخدرات وما ينتهي إليه من استعباد المدمن، بل إن شيوع الانحراف في بعض المدن الأمريكية حرم على عامة الناس الخروج ليلاً أو السير في الشوارع وسمح بوقوع أسوأ الجنايات في المجتمع الأوروبي والاغتصاب علناً وجهرة دون استطاعة أحد التدخل.
إن حاضر المجتمع الغربي اليوم لهو أكبر شاهد على جريرة التسامح مع الجريمة وعدم وجود معايير موضوعية للعدالة تفرض على المجرم العقوبة التي تتكافأ مع جريمته، وتكون قاسية بقدر قسوة الجريمة، وهي قضية قد تذهب بكل منجزات الحضارة الغربية لأنها تدس لها السم في الدسم بعدم التفرقة بين الخير والشر، وتوهن من مقاومتها بحيث تستسلم تدريجياً لوازع الشر استسلامها لوازع الربح.