توحيد العبادة أول واجب على المكلفين ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام وهو الذي خلق الله الخلق لأجله وشرع الجهاد لإقامته وجعل الثواب لمن حققه والعقاب لمن تركه .
وهذا التوحيد هو توحيد الله بأفعال العباد وذلك بأن تصرف جميع أنواع العبادة لله تعالى وحده لا شريك له قال تعالى: (وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) .
وهذه المقدمة محل اتفاق بين أهل السنة، فأنت ترى في واقعنا -معشر أهل السنة- فهماً لهذا المعنى السالف، لكن من الأخطاء التي نرتكبها أثناء تعلُّم أو تعليم توحيد العبادة عدم الالتفات إلى آثار ولوازم هذا التوحيد من سلوك شرعي وخلق إسلامي.
فالكثير من إخواننا أهل السُنة يظنون أنهم حققوا هذا التوحيد مع وقوعهم في جملة من السلوكيات والأخلاق التي تخالف لوازم هذا التوحيد، فيدعي أحدهم أن توحيده في غاية الصحة والكمال، وإن وقع في تلك الانحرافات والمخالفات.
وقد بيّن أهل العلم الربانيون وجوب فعل المأمورات وترك المحظورات، وأن ذلك من لوازم التوحيد ومقتضياته، وأن الوقوع في فعل المحرمات وترك الواجبات يؤول إلى خلل في التوحيد، فالمعاصي بريد الكفر.
يقول ابن القيم رحمه الله: (التوحيد ألطف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيء يخدشه ويدسنه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون يؤثر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً أدنى شيء يؤثر فيها، ولهذا تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية، فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده، وإلا استحكم وصار طبعاً يتعسَّر عليه قلعه) .
ويقرر ابن القيّم أن من قوي توحيده فحقق معنى لا إله إلا الله؛ فإنه يخلص من الشهوات والشبهات، فيقول: (كلما عظم نور هذه الكلمة -لا إله إلا الله- واشتدّ؛ أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى أنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معه شبة ولا شهوة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده، الذي لم يشرك بالله شيئاً، فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حُرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غرَّة وغفلة لابد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سُرق منه استنقذه من سارقه، أو حصَّل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولَّى الباب ظهره) .
وعندما يصر الكثير من المسلمين على فعل المعاصي ظانين أن ذلك لا يخدش توحيدهم، وأنهم لم يشركوا بالله شيئاً، فإن ابن القيم يقول في الرد على هؤلاء -أثناء توضيحه لمعنى الحديث القدسي-: (يا ابن آدم، لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقُرابها مغفرة) .
(اعلم أن هذا النفي العام للشرك -أن لا يشرك بالله شيئاً ألبتة- لا يصدر من مُصرّ على معصية أبداً، ولا يمكن مدمن الكبيرة والمصرّ على الصغيرة أن يصفوا له التوحيد، حتى لا يشرك بالله شيئاً. هذا من أعظم المحال. ولا يُلتفت إلى جدليّ لاحظّ له من أعمال القلوب، بل قلبه كالحجر أو أقسى، يقول: وما المانع؟ وما وجه الإحالة؟
فدع هذا القلب المفتون بجدله وجهله، واعلم أن الإصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذله لغير الله، وتوكله على غير الله، ما يصير به منغمساً في بحار الشرك، والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه إن كان له عقل، فإن ذلّ المعصية لابد أن يقوم بالقلب فيورثه خوفاً من غير الله، وذلك شرك، ويورثه محبة لغير الله، واستعانة بغيره في الأسباب التي توصله إلى غرضه، فيكون عمله لا بالله ولا لله، وهذا حقيقة الشرك) .
ولعل السبب في هذه الفجوة بين التوحيد وبين لوازمه السلوكية والأخلاقية ما نسلكه في تعلمنا أو تعليمنا لهذا الموضوع الجليل من الفصل بين التوحيد وبين لوازمه ومقتضياته؛ بحجة أن هذا علم التوحيد، وتلك اللوازم تتعلق بعلم السلوك والأخلاق، مما يؤدي إلى عرض التوحيد بعيداً عن آثاره العملية ومقتضياته السلوكية. (العــبوديــة مسائل وقواعد ومباحث؛ للدكتور عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف).